التجربة الإيرانية (الواقع والمآلات).. معارضو حاكمية الخميني في إيران 11
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
الحلقة الحادية عشرة
1 ـ من المفارقات الكبرى أن يخرج أول معارض لحاكمية الفقيه من قلب بيت المرشد الأعلى نفسه، وهو حسين أحمد الخميني حفيد الإمام الخميني، هو من طالب بإنهاء مبدأ ولاية الفقيه الذي اعتنقه وحكم به جده مسار إيران لأكثر من ثلاثين عاماً، وقد جهر برأيه منذ البدايات الأولى من قيام الثورة الإيرانية، فوضع قيد الإقامة الجبرية أثناء حياة جدّه الإمام الخميني وبأمر منه، بعد أن ألقى خطبة في قم، ولم يكن قد بلغ الرابعة والعشرين من عمره، هاجم فيها سلطة رجال الدين، التي أطاحت بــ(أبي الحسن بني صدر) أول رئيس للجمهورية، وقال في خطبته المعروفة آنذاك "إنني أسمع وقع الديكتاتورية يقترب من إيران على وقع نعال رجال الدين " ([1]).
وقد اعتبر كلامه ذلك تحريضًا ضد الجمهورية الإسلامية، ولا يزال الحفيد المتمرد مطارداً من الولي الفقيه ([2]).
ليست هذه المفارقة الوحيدة، فثمة أحفاد آخرون خرجوا على ولاية الفقيه من دار الإمام الخميني، واصطدموا بجبروتها، ابتداء من علي أشراقي الذي منعته ولاية السيد خامنئي من الترشح لمجلس الشورى عام 2008 بحجة ميوله الإصلاحية ومناوئته للاستبداد اللاهوتي، مرورا بشقيقته الدكتورة زهرة أشراقي التي تقف على الخط النقيض للولاية، وقد تعرضت لملاحقة مليشيات الحكومة، بسبب معارضتها، بعد أن أشهرت احتجاجها على الصعود غير القانوني المخجل لمحمود أحمدي نجاد إلى الرئاسة، جراء تزوير انتخابات 2009، وهددت بفضح ملفات الولاية السوداء على حد قولها([3]).
2 ـ فزع آية الله العظمى المرجع محمد كاظم الشريعتمداري من صخب الولاية، وما أثارته من عنف وفوضى داخل البلاد، وقد حاول الرجل جاداً الإصلاح، وتعديل المسار، فبادر إلى تسجيل كثير من الوصايا والملاحظات للحد من اندفاعات الإمام الخميني([4])، كان في مقدمتها رفض شريعتمداري للولاية المطلقة، أعقب ذلك إسداء النصح لتلميذه الخميني بأن لا ينسى نفسه وسط رمال السياسة المتحركة وسحر السلطة، فمكانه في مدرسته الفيضية التي غاب فيها عن تلاميذه. وكان الرد المفاجئ والصاعق، أن جعل الخميني التلميذ من أستاذه أمثولة مأساوية لكل من يفكر أن يخرج على مملكته الجديدة أو يمسها بكلمة.. وهكذا ضرب التلميذ في العقوق تجاه معلمه مثلا سيئا. فجُرّد معلمه من لقب (آية الله العظمى)، ونُزعت عمامته، وبُصق في وجهه في محاكمة صورية، ثم أبقي قيد الإقامة الجبرية إلى أن حان أجله([5]) خلافاً لقول الإمام علي بن أبي طالب t : (من علّمني حرفاً صرت له عبداً، فإن شاء باع، وإن شاء أبقى، لأنه أبي في الدين) ([6]).
3 ـ وعلى نقيض مطلقات الولاية ووحدانية وعصمة الفقيه، طور بعض الفقهاء نظرية (ولاية الأمة على نفسها)، عبر مبدأ الشورى، في المسألة السياسية والتنظيمية المتعلقة بالمجتمع السياسي، بوصفها دولة زمنية لا يجوز للفقهاء أي - رجال الدين - أن يتولوا السلطة فيها، أو أن يكون كامل جسمها، ولاسيَّما جميع مفاصلها وقيادتها مكونة من رجال الدين. بل إن هذه الدولة يجب أن تدار بحكمة عالية، وأن يتولى قيادتها رجال سياسة مختصون؛ لأن رجال الدين عادة لا تتوفر لديهم دراية في شؤون الحكم وإدارة الدولة، والحال هذه تصبح الدولة من مناطق "الفراغ التشريعي" المحالة للأمة. فلا مجال لأن يسند بها شخص واحد إذا كان هو الفقيه العادل([7]).
4 ـ التمس المرجع السيد محمد الحسيني الشيرازي (1938-2002) من الإمام الخميني إعادة النظر في نظرية النيابة العامة، والعدول عن مطلقاتها، رغم أن المرشد الأعلى كما يروي الشيرازي كان يدعوه مرارًا للقبول بمنصب نائب الولي الفقيه قبل تعيين الشيخ المنتظري غير أن الشيرازي كان يرفض العرض دائمًا لإيمانه بمبدأ (شورى الفقهاء).
ويرى السيد الشيرازي أن جذر الأزمة تتمثل بالإصرار على تطبيق نظرية (ولاية الفقيه المطلقة) التي لم تضع أي اعتبار للقيادة المرجعية أو الإرادة الشعبية، فليس مهماً رأي الشعب إذا ما تعارض مع رأي (الولي الفقيه)، بل ليس مهماً رأي جميع المراجع مقابل رأيه، فهو الآمر الناهي وحكمه نافذ عليهم قسرًا، إذ إن جميع السلطات منحصرة بيده، وهو الذي يقرر هامش الموكول منها إلى الشعب، وله أن يصادر حق الأمة في تقرير المصير باعتبار وصايته إلهية عليها([8]).
ومن يفكر - مجرد التفكير - في فك هذا القيد المجحف كأن يوجه الانتقاد لنمط الحكم أو لأسلوب قيادة (الولي الفقيه) يتهم بالهرطقة والكفر، فينبغي عليه أن يتوب إلى الله تعالى؛ لأنه وفق هذه المعادلة يكون خارجًا على المعصوم - الذي يمثله هذا الولي - وبالتالي فإنه خارج على الله! وقد ثبت السيد الشيرازي على الولاية الخمينية الملاحظات التالية([9]):
أن السيد الخميني وسع من نطاق (ولاية الفقيه) في رؤاه، فجعلها (ولاية مطلقة)، وهي ذاتها (ولاية المعصوم). وهو الأمر الذي كان مثار اعتراضات واسعة النطاق، خاصة مع قيام الثورة في إيران وجعل هذه النظرية عماد نظامها السياسي، هذا الحادث الذي طرأ على مفهوم (ولاية الفقيه). أفضت المطلقات الخمينية في رأي الشيرازي إلى قولبة الأنظمة المرجعية في إطار سياسي محدد أجبرها على أن تصبح في موقع التبعية بعدما جرّدها السيد الخميني من استقلاليتها التي كانت تتمتع بها طوال العهود السابقة. وسقطت - إثر ذلك– منظومة المقننات التي كانت تحكم هذه الأنظمة المرجعية، الأمر الذي تسبّب فيما بعد بإغراقها في الوحل السياسي، وجعلها مرهونة بمصالح الطبقة الحاكمة. مضايقة المراجع والمجتهدين وفرض الإقامة الجبرية عليهم، بل محاكمتهم والبصق في وجوههم، كما حدث للسيد الشريعتمداري، لم يكن ليمر دون أن تصاحبه ردة فعل شعبية واسعة النطاق قد تقلب الأمور رأسًا على عقب.
في ضوء هذه الملاحظات النقدية، يرى السيد الشيرازي أن الشورى تضع حداً لدكتاتورية الفقيه الأوحد، فالشورى مبدأ إسلامي أصيل، يصلح في رأيه أن يقيّم نموذجاً تكاملياً لحكومة إسلامية (عالمية واحدة) عبر (مجلس فقهائي) في الأمة، ينظم أمرها ومصالحها من قبل مجموعة الفقهاء الموجودين في كل عصر وبذلك يمكن للفقهاء على حد قوله من الحفاظ على الأمة من خلال إقامة الحكم الإسلامي في دول المسلمين.
5 ـ الشيخ حسين علي المنتظري: كان الوجه الأبرز بين كبار رجال الدين في إيران الذي أجرى مراجعاته على الطابع الثيوقراطي للجمهورية الإسلامية من خلال مؤسسة ولاية الفقيه، وهي أعلى مرتبة سياسية دينية في الدولة. يعتبر أن "الفقيه" أو المرشد الأعلى للجمهورية لا يتمتع بشرعية إلهية، ويجب تالياً تعيينه ديمقراطيًّا لمرحلة محدودة من الزمن على أن يكون قابلاً للعزل، وأن يقتصر دوره على التوجيه التربوي وإسداء النصح للحاكم، فكان الاصطدام المضني المبكر بين الفقيه ونائبه، عندما أقدم التلميذ النابه على تشخيص نواحي الخلل والقصور في النظرية وتطبيقاتها، وكان يأمل أن يتسع صدر معلمه السيد المرشد للنقاط التي توصل إليها، إما بمناقشتها أو الأخذ بها علّها تسهم في تصحيح مسار الولاية وتحافظ على نصاعة الثورة، بعد أن أصبحت الولاية مركزا للدكتاتورية والاستبداد([10]). وفوجئ نائب الفقيه برد فعل المرشد على ملاحظات تلميذه بالازدراء والتوبيخ ـ يقول الشيخ حسين علي المنتظري في حديث له مع صحيفة الحياة اللندنية الصادرة في(26/4/2000) بأن الملاحظات التصحيحية التي عرضها على السيد الخميني كانت تنبثق من أسس نظام (ولاية الفقيه) نفسها وليس خارجا عنها، ما نصّه ([11]):
إنّ ولاية الفقيه المطلقة، تجعل الفقيه فوق القانون، لكونه يستطيع التدخل في جميع الأمور من دون حساب وكتاب. امتلاكه وحده حق التشريع. تعتبر ولاية الفقيه المطلقة في عرف الشرع والعالم هي الاستبداد بعينه. الحكم الاستبدادي في عالمنا المعاصر لا يمكن له أن يستمر ويدوم.
-المراجع-
([1]) راجع عبدالله الفقير (حسين الخميني هل هو القائد الفعلي للثورة الحالية ضد الولي الفقيه). إبراهيم خياط جريدة الحياة عدد (10/8/2003).
([2]) جريدة سرماية (رأس المال) الإيرانية عدد (2 آذار- مارس 2008).
([3]) الجريدة الدولية. العدد 20/12/2009.
([4]) الدكتور موسى الموسوي. الثورة البائسة ص51.
([5]) عبد الجبار العمر. الخميني بين الدين والدولة، مبحث الخميني وشريعتمداري ص144 وما بعدها.
([6]) المعلم في التراث العربي الإسلامي. مركز إحياء التراث العلمي العربي. جامعة بغداد 1992.
([7]) شمس الدين، الإمام الشيخ محمد مهدي: الأمة والدولة والحركة الإسلامية، بيروت، كتاب الغدير، إصدار المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، 1994، ص148. ص107.
([8]) السيد الشيرازي رأي حول ولاية الفقيه. 2006.
([9]) المصدر السابق.
([10]) الدكتور علي نوري زاده.
([11]) صحيفة الحياة اللندنية عدد (26/4/2000).
وسوم: العدد 771