الحواضنُ المجتمعيّة في الثورة السورية إذْ تُعيد تموضعَها
المجتمع هو المنبع لكل ثورة تخرج ضد الظلم و الطغيان، و هو المنطلق لكل حَراك مجتمعيّ، و هو المحرك و المولِّد لكل انتفاضة تخرج ضد نظام أو حزب استبدادي، تطالبه بالرحيل و تنشد التغيير.
فالشعوب هي التي تولّد الثورات، التي تبدأ بحدثٍ صغير، على قاعدة " القشة التي قصمت ظهر البعير"، و لا يلبث أن يتحول هذا الحدث الى شرارة تشعل أتون الغضب على مفاصل النظام كلّها، و لا تلبث هذه النيران المتقدة، المتولدة من جحيم المعاناة و شظف العيش ، أن تتحول إلى ثورة عارمة يحوطها الشعب و يرعاها، و يؤيدها و يكلؤها بعين رعايته، يأمّن لها أسباب العيش و الاستمرار، و يوفّر لها الحضن الدافئ.
كذا حال الثورة السورية سواءٌ في طورها السلميّ، أو حتى لمّا بدأت كتائب الثوار بالتشكل و الظهور، على يد كتائب الجيش الحر، أو لمّا أخذت تتأسلم عفويًا، ثمّ لتتأدلج عن قصد فيما بعد، حيث تمحورت حول رايات فصائلية متعددة و متباينة، و باتت تشكيلاتها تتنازع المناطق و الأهداف و الوجود و الموارد.
حينها تغافلت الفصائل بشكل لافت للنظر، عن أهم سبب من أسباب قوتها، و أهمّ مصدر من مصادر شرعيتها، و أقوى محرض على استمراريتها، ألا هو الشعب.
تلك الحاضنة المجتمعية، التي تمثِّل الأساس و المركز لها، فلم يعُد يعنيها أمرها، إلاّ حينما ترغب في كسب ودها، و استقطابها حين احتدام صراعها مع الفصائل و التشكيلات الأخرى.
و الملاحظ أنّه كما تعددت مشارب و أهداف الفصائل، كانت تعددت أساليبهم بجذب الحواضن المجتمعية، فمنهم حاورها و اندمج معها و أعانها قدر استطاعته، و منهم من تكبّر عليها و أهملها، و منهم من حاول أن يسوقها بالحديد و النار و القهر و الإرهاب، و منهم من ظن أنّه الوصي الشرعي عليها بعد تقهقر النظام من بين ظهرانيها.
لقد اتبعت جلّ الفصائل البراغماتية المحضة في تعاملها مع هذه الحواضن في مبتدأ الأمر، فأظهرت لها لين الجانب، لكسب ودّها و نيل رضاها، ثم أظهرت لها وجهها القبيح، بأهدافه المناطقية أو الشخصية أو الأيدولوجية.
فقابلتها الحواضن الودَّ بالودّ، و الجفا بالجفا، و النأيَ بالنأي، و البَيْنَ بالبَيْن، و لم تعُد المحضن الذي يُعوَّل عليه.
و أظهر ما كان ذلك مع تنظيم الدولة " داعش " ابتداءً، ثمّ مع غيره من الفصائل، لينتهي الأمر معها في مناطق القلمون الشرقي إلى منعها من فتح جبهة الضمير، التي كانت تبغي منها فكّ الحصار عن الغوطة؛ لدرجة أنّه وصلت الحال بها أن قامت بتسليم إحدى الدبابات التي كان يملكها ثوار الضمير إلى النظام، تحاشيًا للصدام معه، و نكاية بالفصائل التي فقدت كثيرًا من تعاطف الحواضن معها.
ليتكرّر الأمر بلبوس آخر في مناطق شمال حمص، و جنوب حماة، عندما انحازت الحواضن إلى مهادنة النظام، و طلبت من الفصائل أن تخرج إلى إدلب أو جرابلس، و تدع المنطقة من دون أن يلحقها ما لحق أخواتها من مدن الغوطة الشرقية.
و في الظنّ أن هذا المسلك ستسلكه الحواضن في أيّة مناطق أخرى يكون في الخيار بين ثنائية: بقاء الفصائل مصحوبة بالتدمير، و العودة إلى حضن النظام " و لو بشروطه "؛ لدرجة أنّ القائمين على أمر الفصائل باتوا يسمعونها صراحة: لولا أنّ النظام يعود مشبّعًا بروح الانتقام؛ لرحبنا به، و طلبنا منكم أن تقوقعوا على أنفسكم في بطون الوديان، و أعالي الجبال، و فيافي الحماد.
لقد تبيّن أن الحواضن المجتمعية تعطي الفرصة لمن يطلبها، و تتمهّل بالحكم لترى النتائج، و لكنها لا تصبر على ضيم، و لن تستبدل مستبدًّا بمستبد، فصبرُها طويلٌ، و هي لم تألُ جهدًا في احتضان الفصائل و الالتفاف حولها، و إمدادها لوجستيًّا و معنويًّا، إلى الحدّ الذي بذلت أمامها فلذات أكبادها، و ألقت بين يديها تحويشة العمر، ممّا جاد به الزمان على السوريّ " الغلبان ".
لقد تبيّن أنّ لدى السوريين طاقات كامنة، و قد جلبت المخاطر عليه في سنوات محنته، و يبقى السؤال: إلى متى سيتحمّل هذا الشعب ؟.
وسوم: العدد 771