إذا كان اللباس لا يصنع الر اهب فإنه لا يصنع كذلك المثقف والخبير
استرعى انتباهي مقال نشر على موقع هسبريس تحت عنوان : " صمت المثقفين وراء ظاهرة الأنبياء الجدد بالمغرب " لصاحبه جواد مبروكي الذي يوقع مقالاته بصفة " خبير في التحليل النفسي للمجتمع المغربي والعربي " . واستوقفني أولا في عنوان المقال قوله : " الأنبياء الجدد"، الشيء الذي جعلني أقبل على قراءته لأتأكد من الفرضية التي وضعتها لمؤشر العنوان، وهي القناعة بأن الأمر يتعلق بنبوة مجازية ،لأنه لا نبي بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن المغرب والله أعلم أرض النبوات . وأحسب أن الصمت وهو أمر يكون من ناطق ومن غير ناطق حيث يقال لهذا الأخير صامت لا ساكت، بينما الناطق يسكت ويصمت ،ويكون ذلك عن الشيء أو على الشيء ولا يكون وراء الشيء كما جاء في عنوان هذا المقال ، والنحاة العرب يقولون : كلام مفيد فائدة يحسن السكوت عليها" وكان الأجدر أن يحل السكوت في هذا العنوان محل الصمت .
وبعد قراءة العنوان يتبيّن أن الخبير النفسي أراد إثارة موضوع ما يحدث عندما يجتمع الناس في بيت من البيوت، فيقوم فيهم بعض الناس يعظونهم دون استئذان ، وهؤلاء وصفهم بالأنبياء الجدد سخرية منهم . ولم يكتف بذلك بل وصفهم بالمتظاهرين بالتدين عن طريق أشكال أزيائهم ولحاهم وأختام السجود على جباههم ، ورائحة المسك التي تفوح منهم ، و جرأتهم وشجاعتهم في تناول الكلام وسط الجموع ،والشروع في الأحاديث الدينية والمواعظ كأنهم أنبياء جدد بعثتهم سماء العطاء لإنقاذ البرية من الضلال . وتساءل عمن بعثهم ؟ وبأي حق يقتحمون مجالس الناس، ويمنعون الأقرباء والأصدقاء من تبادل الأخبار، ويفرضون عليهم أحاديثهم ومواضيعهم ؟
وبعد التحليل الذي أجراه تبين له أن سبب ذلك هو صمت المثقفين وتحملهم مواعظ هؤلاء الأنبياء الجدد خوفا من تهمة الإلحاد والاعتراض على كلام الله الذي لا يعلوه شيء .وقد تأسف شديد الأسف لذلك لأن التربية المغربية رسخت في أذهان المغاربة هذه الاعتقادات، وكرست لديهم عدم الثقة في النفس للتعبير بكل حرية عن آرائهم حتى وإن كانت مخالفة لمضامين تلك المواعظ الدينية . واعتبر ذلك نقطة ضعف المجتمع المغربي التي يستغلها هؤلاء الأنبياء الجدد الذين لا يتوفرون حتى على شواهد التعليم الثانوي، فيفرضون وجودهم ليبرهنوا للجميع أنهم يفوقونهم علما وثقافة وإيمانا .
والأمر الثاني الذي عزا إليه وجود هؤلاء هو اعتبار الدين علما حسب تعبيره، وهنا تأسف أيضا لأنه رسخ في الأذهان أن الدين هو علم فوق كل العلوم، وله علماؤه، وليس لغيرهم حق مناقشتهم ، لهذا يعتبر هؤلاء الوعاظ الجدد أن علمهم يفوق علوم القاضي والمحامي والمهندس مع أنهم لا يتوفرون في أغلب الأحيان على أي مؤهل دراسي يفوق شهادة الباكلوريا .
أما الأمر الثالث الذي يقف وراء وجود الأنبياء الجدد في نظر صاحب المقال، هو التصورات الخاطئة عن المتدين الواعظ حيث يترسخ في ذهن الإنسان المغربي منذ صغره أن العالم بالدين يكون ذا لحية، وعلى جبينه أثر السجود ،وله جلباب أبيض ، ويتحدث بالآيات والأحاديث . ويشبه من سماهم الأنبياء الجدد بالقساوسة الذين يتخذون من الوعظ مهنة ،ومن كلمة الله ملكية محصورة فيهم ، ولا ينقصهم سوى ما يشبه الكنائس ، ويعقب بالقول إنهم قد أقاموا بالفعل كنائس افتراضية في عقول المغاربة .
وينهي مقاله بالقول : في الماضي البعيد لم تكن هناك مدارس ، وكان الجهل قائما بين عامة الناس، لهذا كانت هناك ثلة قليلة من الدعاة لحفظ وتلقين التعاليم الدينية ، لكن اليوم هناك مدارس وجامعات ومواقع إلكترونية ، وبإمكان أي أحد أن يصبح بسهولة على دراية بأي ميدان من العلوم .
ويختم بالقول المثقف إنسان متواضع لا يحتاج إلى الافتخار بعلمه ، بينما الجاهل يكون في حاجة للبرهنة على ما لا يمتلكه من علم ومعرفة عن طريق استغلال الدين وتصنيفه كعلم ، وارتداء زي معين ، وحفظ بعض الآيات والأحاديث وبعض القصص ، وإضافة بعض التوابل إليها المستوحاة من جهله للتأثير في الناس .
وتعليقا على هذا المقال أقول :
لا ينكر أحد وجود فئة من المتطفلين على الشأن الديني من الذين يستغلون المناسبات لوعظ الناس دون علم بقواعد الوعظ ودون أهلية ودون استئذان أو إذن، ولكن ليس كل من يتصدر المجالس في البيوت من هذه الفئة التي تبادر بالوعظ دون أن يطلب منها ذلك ودون استئذان بل أحيان يلح الناس على سماع الوعظ ممن هو مختص فيه كأئمة المساجد والخطباء والوعاظ الذين توكل لهم الوزارة الوصية على الشأن الديني أمر الوعظ في ما هو أهم من البيوت وهي المساجد . وقد يوجد أحد هؤلاء في بيت من البيوت ،فيطلب منه الحضور أن يزودهم ببعض الوعظ ،علما بأن المغاربة دأبوا على التبرك بسماع تلاوة القرآن الكريم والأذكار والمواعظ في أفراحهم وأتراحهم على حد سواء لا لجهلهم أو غبائهم وإنما لمكانة الدين عندهم .
أما فئة المتطفلين فلا تخفى على الناس من قبيل أولئك الذين يتسولون في المقابر ، ويتقدمون لقراءة بعض سور القرآن عند الدفن ، ويتولون الدعاء للأموات دون إذن من أحد ، أو يقتحمون خيام وبيوت العزاء للتطفل على قراءة القرآن والإنشاد والوعظ ، ولغتهم تشي بجهلهم وتطفلهم .وهناك أتباع بعض الجماعات الذين يعتقدون أن الوعظ واجب عليهم وإن لم يكونوا من أهله ،و زادهم من العلم ضئيل، فيقتحمون مجالا أكبر من أقدارهم ومستوياتهم ،وهؤلاء يغرر بهم شيوخهم الذين يشجعونهم على ذلك باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو آية، وهو حق يراد به باطل حينما لا يكون المبلغ على علم ودراية بما يبلغ. وهناك أتباع جماعات أخرى تبث أفرادها لنشر تصوراتها وأفكارها تحت غطاء الوعظ والإرشاد في بيوت الغير ،وهؤلاء سرعان ما ينكشف أمرهم من خلال ما يصدر عنهم من أفكار تعكس توجهاتهم التي لا تخفى على المطلعين بخباياهم ومقاصدهم .
والذي لا نتفق فيه مع صاحب هذا المقال أمور منها :
ـ اعتبار اللحى واللباس وعلامات السجود على الجباه والتعطر حكرا على من سماهم الأنبياء الجدد الجهلة ، ذلك أن كثيرا من أصحاب القدم الراسخة في العلم لهم هذه الهيئة، الشيء الذي يؤكد المقولة المشهورة :" اللباس لا يصنع الراهب " وإذا كان اللباس لا يصنع الراهب، فإنه كذلك لا يصنع المثقف والخبير ، فكم من لابس بذلة عصرية ورابطة عنق من آخر طراز ليس بينه وبين الثقافة إلا الخير كما يقال، ولهذا كتب أحدهم قديما كتابا سماه " فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب " . وصدق الشاعر إذ يقول :
وكم من علاّمة لا يشق له غبار يرتدي هذا الزي الذي سخر منه صاحب المقال، واتهم المغاربة جميعا بالانخداع بمن يلبسونه على وجه التعميم الذي لا يقبل من محسوب على الخبرة النفسية بالمجتمع المغربي وبعموم المجتمع العربي .
والعباءة والجلباب واللحى وعلامات السجود على الجباه أمور شائعة في المجتمع المغربي دون أن تنحصر دلالتها فيما ذهب إليه صاحب المقال .
ـ نفي صاحب المقال صفة العلم عن الدين انطلاقا من الحكم على بعض المتطفلين عليه أو المرتزقين به خطأ لا يليق بمثقف صاحب خبرة ،ذلك أن الدين له علوم وليس علم واحد عند أهل العلم ، فهي علوم قرآن وعلوم حديث وعلوم أخرى تقتضيها علوم الكتاب والسنة، وهي تخصصات ليس في متناول كل من هب ودب، وليس كل من في المدارس والجامعات والمواقع الإلكترونية يجيدون التعاطي لها، بل لها مدارسها وجامعاتها ومعاهدها وحتى مواقعها الإلكترونية ، ولها أهلها، وليس كل مثقف أهل لها وإن كان قاضيا أو محاميا أو مهندسا أو طبيبا ،فقد يوجد من بين هؤلاء من لا يجيد حتى الوضوء أو الغسل بله الخوض في علوم الدين .
ـ لا نتفق مع صاحب المقال أيضا في أنه بالإمكان التعبير بحرية عن الآراء المخالفة لمطلق المواعظ الدينية دون تمييز بين ما يصح أن يطلق عليه وعظ صادر عن ذي علم ومعرفة وخبرة ، وبين ما يعتبر تطفلا على الوعظ . وقد دأب بعض المحسوبين على الثقافة والتنوير على مجادلة أهل العلم خلال الموعاظ فيما لا علم لهم به ،ولا يميزون فيه بين كوع وبوع تعصبا لاتجاهاتهم الفكرية وأهوائهم الإيديولوجية ، وحتى تصفية لحسابات خاصة ، أو لأغراض دعائية مكشوفة ، وهم يهدفون من وراء ذلك إلى تلقين غيرهم التجاسر على أهل العلم والمعرفة ، والخوض فيما لا علم لهم به والتطبيع مع ذلك خدمة لأهداف فيها الصريح وفيها الضمني .
ـ ولا نتفق مع صاحب المقال كذلك في أن الماضي البعيد لم تكن فيه مدارس ، وأن عموم الناس كانوا فيه جهالا ، فمثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر من مثقف بله من خبير من المفروض أن يكون مطلعا على تاريخ الأمة الإسلامية عموما والمغربية خصوصا . ومعلوم أننا ما زلنا ونحن في عصر الثورة الرقمية عالة على أسلافنا في مجال علوم الدين وغيرها من العلوم ، ولن نبلغ شأوهم في ذلك ، ومؤلفاتهم شاهدة على ذلك . وإذا كان الخبير النفسي لا يعرف ذلك، فالأمر جد مؤسف، أما إذا كان ينكره فتلك طامة كبرى .
ـ ونهمس في أذن صاحب المقال بأن كثيرا من شواهد التعليم الثانوي والباكلوريا وحتى بعض الشواهد الجامعية لم تعد تساوي الحبر الذي تدون به لما أصاب معظم هذا الجيل من تراخ وكسل وجهل مركب ،أقول هذا وأنا رجل تربية مارست التدريس والتأطير والمراقبة التربوية، وعندي الخبر اليقين والخبرة بحال التعليم في بلادنا .وقد يجيد حتى بعض المتطفلين على الوعظ ممن سماهم الأنبياء الجدد الكلام أفضل من بعض حاملي شهادات الباكلوريا والشواهد الجامعية الذين لا يستطيع بعضهم التحدث دون عيّ لبضع دقائق بل لبضع ثوان مع السقوط في الركاكة والأخطاء اللغوية الفاضحة .
ونختم بالقول هل يدخل هذا المقال ضمن الحملة المنسقة التي صارت سائدة في مجتمعنا هذه الأيام للنيل من الدين لفائدة تيارات فكرية تحاول تقديم نفسها بديلا عنه ، وذلك في إطار الصراع الإيديولوجي والسياسي الذي أفرزه ظرف إجهاض حراكات وثورات الربيع العربي انتصارا لتوجهات يراد لها أن تسود العالم العربي حتى لا يبارح وضعية ما بعد النكبة والنكسات ؟
وسوم: العدد 776