فرضية حول الحياة الطيبة: الفكر في ارتقائه لا يلبث أن يتحرر، فيتسع، فيسمو
(ندوة في "مركز الحوار العربي" - منطقة العاصمة الأميركية)
27 يونيو/حزيران 2018
حديثي إليكم يأتي في سياق ما نصبوا إليه جميعا - أفرادا وجماعة – وهو أن نحيا حياة طيبة: حياة نماء على المرتقى الإنساني نحو الأمثل. مصطلح الحياة الطيبة يرد في القرآن الكريم (1)، ويرد في أدبيات أديان وحضارات أخرى في نسق مماثل، وفي جميع الحالات، على ما استطلعت، يرد كهدف سام جدير بالسعي في سبيل تحقيقه.
الحياة الطيبة لا تعني حياة رفاهية ورخاء، ولا حتى حياة سعيدة بالمعنى الدارج: أي حياة خالية من الأتراح ومليئة بالأفراح. هي صميماً تختلف عن مثل ذلك. كيفما تتقلب الظروف المعيشية لصاحبها عبر تقلب صروف الدهر، الحياة الطيبة تبقى في نمطيتها حياة بساطة وقناعة وتواضع، وفي تهذيبها حياة استقامة وعفة ونبل. وهي حياة أبعد ما تكون عن الخبث والإثم والعدوان، وأقرب ما تكون إلى البر والصلاح والإيمان.
ما أعرضه، إذن، هو، باختصار، فرضية حول الحياة الطيبة، تحديدا: كيف تُحقق؟ لقد نظرت في هذه الفرضية بإمعان، وأراني لمست أثرا مثريا من نضحها من خلال اختبار فعلي لمعطاها عبر عدة سنوات خلت. الفرضية هي أن الفكر في ارتقائه لا يلبث أن يتحرر، فيتسع، فيسمو. التسامي هنا يكون إلى حيث تُسفر خبرة الإنسان عن حياة طيبة يحياها على مسار متراق مفتوح الارتقاء فكرا وسلوكا ونمط عيش، مسارِ تتحقق عبره عموم إيجابيات الحياة.
ما الفكر، وكيف يكون ارتقاؤه شطر حياة طيبة؟
الفكر مُفرَز ذهني، والتفكير حراكه الذي لا يتوقف في يقظة أو نوم، إذ أن المخ لا يركد حراكه إلا بعد أن يفارق الجسدً النفسُ الأخير. تفكير اليقظة في أحطه يكون تفكيرا متدنيا، وفي أرقاه يكون تفكيرا سامياً. بين النقيضين يتدرج التفكير عبر تفكير سلبي، تفكير عقيم، تفكير ضروري، وتفكير إيجابي.
لننظر في صنوف التفكير هذه - من أحطها إلى أرقاها:
أولا: التفكير المتدني: وهو ذاك الذي يضر بصاحبه قبل غيره. هو تفكير ينهك البدن ويُشقى النفس. من عناصره السامة: الحسد، الجشع، الحقد، كراهية الآخر، نزعة الانتقام، الظلم، الغرور، الطغيان... هذه ومثيلاتها من مهالك التفكير المتدني تعوق مطلقا إمكانية الارتقاء في حال من يُبتلى بها بجهالة، ثم لا يعمل على التخلص منها برشد.
ثانيا: التفكير السلبي: وهو أقل ضررا من التفكير المتدني، إلا إنه تفكير يُنظر منه إلى الأمور مسبقا بسوداوية قاتمة، شديدة الارتياب في كل صغيرة وكبيرة. مثل هذا التفكير يعوق صاحبه عن الانفتاح على الناس والاستفادة منهم. هو أيضا يفوّت عليه الاستمتاع ببدائع الطبيعة وألطاف الحياة.
ثالثا: التفكير العقيم: وهو التفكير الذي لا طائل منه على مسار النماء المعرفي أو التهذيب الخُلقي أو التدبير العملي. من أكثر أمثلته شيوعا في عصرنا الألعاب الصورية video games -. إلى جانب إهدار الوقت والطاقة، هي أيضا تجر إلى الإدمان عليها، وإلى إضرار بالبدن جراء تكرار إطالة الجلوس.
رابعا: التفكير الضروري: وهو يكون في مجال الأمور التي يلزم تدبيرها لأجل توفير احتياجات العيش وتنظيمها على أوفق وجه. الأمثل هنا الاقتصاد في الاقتناء والاستهلاك، بحيث يبقى نمط العيش محكوما بضابط الإكتفاء. الغرض هنا أن لا يطغى التفكير في إشباع الرغبات من بعد توفير الاحتياجات، فيعوق التوجه نحو النماء المعرفي والتهذيب الخلقي، بل أن يبقى الحذر دائما من الانسياق وراء رغبات منفلتة لا تُشبع وتقول هل من مزيد.
خامسا: التفكير الإيجابي: وهو نقيض التفكير السلبي. إنه التفكير المنطلق من الثقة والانفتاح، بدل الارتياب. إنه يفتح أمام صاحبه فرص الاستفادة من الناس حيثما توجد، وفرص الاستمتاع بالحياة حيثما تتاح. قاعدة التفكير الإيجابي هي أن نثق ونتأكد، بدل أن نرتاب مسبقا فنحجم.
سادسا وأخيرا: التفكير الراقي، وهو تفكير رحب رفيع، يعلو على جميع ما أوردت من صنوف التفكير. هو ينقل صاحبه إلى وعي أعرض وأصفى لطبيعة الوجود، ولحراك الحياة وتطور الجنس البشري ضمن حراك الحياة. هو تفكير يعي به المرء ثبات السنن الكونية وحيادها: أنها لا تحابي أو تجافي أحدا، وأنها لا تغش أو تغدر، بل تأخذ مجراها وفق مقتضيات طبيعية موضوعية في جميع الأحوال، لذا هو يطمئن إليها، يعمق فهمه لها، ويوائم نهجه مع سياقاتها، دونما اعتراض أو امتعاض. إنه يرى نفسه كائنا كونيا، في إلفة مع جميع ما يوجد، لذا لا يعادي، ولا يعتدي، ولا يلجأ لعنف. هو يرى السنن الكونية أصدقً إخبارا عن حقائق الوجود من نصوص أي كتاب، لذا يتخذها مرجعية تعلو على كافة المرجعيات. هو يستنير بما يعرف تحقيقا، ولا يقلق إزاء ما لا يعرف. الحيرة لديه حالة صحية تبعث على الدعة والتواضع، وتدفع للاستكشاف دونما رهبة أو رعب.
لماذا أهمية التفكير؟
لأن من التفكير تتولد المشاعر. فإذا فكّر المرء سلبياً أو إيجابياً تجاه شخص ما، أو قضية ما، تكوّن شعوره تجاه ذلك الشخص، أو تلك القضية، على شاكلة ما فكر. ثم إن من تزاخم المشاعر وتكاثفها يتولد منظور نمطي تصطبغ به جل أفعاله، وإذا تكررت منه ذات الأفعال أضحت عادات يأتيها دونما تفكير. أخيرا، من العادات ترتسم شخصية المرء، فينظر إليه بما هو عليه من عادات، حميدة أو ذميمة. هكذا تسلسل أثر التفكير في صياغة شخصية كل فرد.
ما هي العوامل التي تؤثر في التفكير؟
هي إجمالا ثلاثة:
العامل الأول هو ما يتلقى المرء من ثقافة قومه من مفاهيم وقناعات تستقر في ذهنه مبكرا، وفي الأغلب تبقى صابغة تفكيره عبر لاحق مراحل عمره، إلا إنها ليست عصية على التغيير أو التعديل إذا ما ووجهت بمفاهيم وقناعات أرجح حجة بمعيار معرفي ناصع.
العامل الثاني هو ما يتعرض له المرء شخصيا من خبرات الحياة ، فيتلون تفكيره بأثر ما يتعرض له. هذه بدورها ليست عصية على التغيير أو التعديل إذا ما تغيرت الظروف في مجرى حياته وساقت له خبرات مغايرة لتلك التي كان قد تعرض لها وتأثر بها من قبل.
العامل الثالث هو المنهج الفكري الذي ينشأ عليه المرء. فإن كان منهجاً معرفياً، تطور فكره بسلاسة وفق صحيح المعرفة التي يتابع بلورتها ويتلقاها، بانفتاح وبتمحيص معا، من حراك الاجتهاد المعرفي الإنساني المشترك. وإن كان منهجاً دينياً توقف فكره عند معطيات الدين الذي يدين به. المعطيات الدينية، أيا كان الدين، تمتنع على التطور أو التعديل خارج منطوق النصوص، لأنها تأتي مغلفة بقدسية لا تمس، ومعضدة بالوعد والوعيد. بالمحصلة، مفاهيم المنهج الفكري قابلة للتطور في كل حين، بينما معتقدات المنهج الديني غالبا ما تكون عصية على التطور حتى مع اتضاح افتقارها إلى سند معرفي.
أعود الآن إلى فرضية هذا الحديث، فرضية الحياة الطيبة، وهي أن الفكر في ارتقائه لا يلبث أن يتحرر، فيتسع، فيسمو.
الفكر كمُفرز ذهني هو ما ترتسم به وجهة خبرتنا الحياتية، ارتقاء أو انحدارا على المدرّج الحضاري. لقد قيل: كما تفكر تكون. أمام أي منا إمكانية الارتقاء دون سقف يحد، وإمكانية الانحدار إلى حضيض لا قاع له. صنّف حكيم حراك الإنسان في ثلاث: تقدم أو تراجع أو تراوح في المكان، حيث التقدم كسب، والتراجع خسران، والتراوح غبن. حكيم آخر أخبر عن نفسه ونظرائه بالقول: نحن قوم لا نصبح حيث نمسي، ولا نمسي حيث نصبح، منوها بحراك ارتقائي مستطرد قابل التحقق لدى كل ساع مجتهد.
بم يكون ارتقاء الفكر؟
يكون أولا بنبذ التفكير المتدني، والتفكير السلبي، والتفكير العقيم، وبالعمل بالتفكير الضروري والتفكير الإيجابي. من التفكير الإيجابي يكون انطلاق السعي حثيثا نحو التفكير الراقي، ليكون الاستبصار بهديه في جميع دروب الحياة، جميع مناهج التوسع المعرفي، وجميع مسالك التهذيب الخلقي.
يكون ثانيا بتحرر الفكر من مرجعية العادات والتقاليد، وبالأهم من ذلك، بالتحرر من مرجعية المعتقدات الغيبية، تلك التي لا سند لها في صحيح المعرفة المتبلورة من خلال البحث العلمي في كافة ميادين الحراك المعرفي الإنساني المستديم.
يكون ثالثا بالعيش وفق معالم الحياة الطيبة التي تتمثل على صعيد الواقع المعاش في البساطة والقناعة والتواضع، وعلى صعيد الارتكاز الفكري، في الإيمان والاستقامة والنبل.
بتحرر الفكر هكذا، يتسع الأفق المعرفي فيرى المرء كل إرث الإنسانية إرثه، فيغترف من روافده الوفيرة المتنوعة كل مفيد ونفيس. إنه يرى نفسه كائناً واعياً، وليد الأرض، إنساني الهوية، موصولا بوعيه مع الكون بأسره. بذلك يتجاوز فكره سائر هوياته المكتسبة ومحدودياتها، ويتسامى شطر مشارف الحكمة المتعالية التي تحدث عنها الحكماء وأخبروا عن فضاءاتها النقية الرحبة، تلك التي لا يطالها دنس ولا تعتريها سلبية من أي نوع.
خلاصة نظري، إذن، أن لا يبخس أحد قدر نفسه ...، أن لا يتراجع ولا يبقى متراوحا في مكانه في حياة محدودة الأجل، تدعوه في كل لحظة إلى محاولة الارتقاء. بل إن عليه أن يصحو على حقيقته الكونية كإنسان، فيرتقي بفكره، واثقا بأن الارتقاء ممكن له ومتاح أمامه، وهو ارتقاء لا يحده سقف. الى ذلك تشير أبيات ثلاثة مشهورة، هي عند البعض تنسب إلى الإمام علي، وسواء أصح التنسيب أو لم يصح، فالعبرة تبقى فيما جاء فيها من تنبيه للأنسان وحث له على الإفاقة على حقيقة نفسه:
دواؤك فيك وما تشعر وداؤك منك وما تبصر
وأنت الكتاب المبين الذي بآياته يظهر المضمر
أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
فهمي لهذه الأبيات أن العالم الأكبر هو الكون بأسره، وأن انطواء الكون في الإنسان يكون بمعيار تحرر الإنسان فكراً، فتوسعه معرفة، فتساميه في الحكمة المتعالية المرصعة بالخلق الكريم. معنى رديفاً أستشفه: أن على مرتقى التوسع المعرفي والتهذيب الخلقي سرعان ما تلوح معالم الحياة الطيبة التي في فضاءاتها النيرة ومن مشاربها االنقية يتحقق في الإنسان خير ما أودع في الإنسان أصلا ككائن كريم.(2) ***
-------------------
(1) من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون – القرآن، سورة النحل، الآية 97
(2) ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا – القرآن، سورة الإسراء، الآية 70
وسوم: العدد 779