شيخنا ابن درعا
أرى شيخنا ابن "درعا" \ ابن قيم الجوزية، يحمل كُتُبه ويتمتم بقوله من كتاب الفوائد :
« يا أقدام الصبر احملي .. بقي القليل »
وما إن اقترب من الحدود الأردنية، حتى وجدها مغلقة وقد كانت مُشرعة كقلوب أهلها..
أيُّ قليل بقي يا شيخنا وقد سُحِقت كلّ معاني الإنسانية وقِيَم الأخوّة تحت أقدام ثلة قابضة على زمام الأمور في بلدي وحولهم صغار النفوس يهتفون لهم "أن من الحكمة ما تفعلون" !!
هم يُجرمون يا أبتي هم مُجرمون !!
فأشيح بخجلتي منه يمين إبصاري فإذا بالإمام ابن كثير ابن "درعا" يحمل تفسيره،
وجالس يبحث في كتابه البداية والنهاية عن صفحة في آخر أجزائه، ليسطر تاريخاً جديداً في حياة الأمة المُسلمة، وددت لو أنني تناولت محبرته وأمسكت بقلمه وانساب مع المداد عصارة أفكاره، وإذْ به يحادثني بطريقة الرواة :
« حدثنا سفيان بن حسين قال: ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي، وقال أغزوت الروم؟ قلت: لا، قال: فالسند والهند والترك؟ قلت: لا، قال: أفتسلم منك الروم والسند والهند والترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟! قال: فلم أعد بعدها !!»
يا الله ما أشدّها على نفسي :« : أفتسلم منك الروم والسند والهند والترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟! »
ونحن نستقبل طوفان السُيّاح الشُّقر والحُمر على آثار أم قيس والبتراء وجرش، ولم نفتح الحد للمسلم العربي الباحث عن أسباب النجاة في داري، والأعذار واهية كاذبة خاطئة، أقبح من الذنب ذاته !!
ثم أمشي بين طوفان الشيوخ الرُتّع، فتلوح لي من ذاكرة التاريخ شيبة سلطان العلماء وبائع الأمراء، العز بن عبد السلام، وهو يتزين بفقهه المقاصدي، فلما وجدته هممت بأن أبتدره بالسؤال، غير أنه عاجلني هو بالسؤال:
"سمعت أنكم ثُرْتم على حكومتكم من أجل ضرائب أثقلت كاهلكم، أحقٌ ما يقال؟
أومأت برأسي أن: نعم، فقال بأوداج قد انتفخت من الغضب:
"افتحوا الحدود لأعظ ملوككم، وأقول لهم ما قلته لـ قُطُزٍ عندما أراد فرض ضريبة على رعيته: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحُليّ الحرام، وضربته سكة ونقداً، وفرقته في الجيش ، ولم يقم بكفايتهم في ذلك عندئذ نطلب القرض من الناس .. »
وما إن هممت بالابتعاد عن الحدود ، وغبار الهاربين الباحثين عن الحياة، حتى سمعت شيخنا الإمام النووي ابن "نوى" من بلدات "درعا" يُحدّث تلاميذه بحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
« الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »
ويُعلّق الإمام النووي بقوله : « "وَلَا يُسْلِمُهُ" أَيْ لَا يَتْرُكُهُ مَعَ مَنْ يُؤْذِيه وَلَا فِيمَا يُؤْذِيه، بَلْ يَنْصُرُهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ، وَهَذَا أَخَصّ مِنْ تَرْك الظُّلْم .. وَفِي الْحَدِيثِ حَضّ عَلَى التَّعَاوُنِ وَحُسْن التَّعَاشُر وَالْأُلْفَة، وَفِيهِ أَنَّ الْمُجَازَاةَ تَقَعُ مِنْ جِنْس الطَّاعَات .. »
ثم قمت من حول مجلسه وأنا أحمل على أكتافي هموم الأسى على حالنا ، وما صارت إليه الأمور .. وما أن أردت أن ابتعد حتى سمعت الشاعر أبا تمام ابن "حوران" يُردد مرثيته الشهيرة قائلاً :
كذا فليَجلَّ الخطبُ وليَفدحِ الأمرُ
فليسَ لعين لم يفضْ ماؤها عذرُ
حتى وصل لقوله :
مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبقَ روضة
غداةَ ثوى إلا اشتهتْ أنَّها قبرُ
ثَوَى في الثَّرَى مَنْ كانَ يَحيا به الثَّرَى
ويغمرُ صرفَ الدهرِ نائلُهُ الغمرُ
عليك سَلامُ اللهِ وَقْفاً فإنَّني
رَأيتُ الكريمَ الحُرَّ ليسَ له عُمْرُ ..
لطالما تغنيّت بأمجاد بلادي وصِيتِنا في الكرم وإغاثة الملهوف وحُسن استقبال الضيف وإكرامه .. والفزعة والهيبة وصفات الرجال الرجال ..
واليوم .. على حاجز الشّيك الحدودي قررت حكومة من العلمانيين والليبراليين اللاإنسانية واللاقومية واللارشيدة أن تغلق الحدود أمام تدفق اللاجئين السوريين الهاربين من القتل والذبح على الهوية السُنيّة والتنكيل..
آه من مرارة تلك الكلمة ( اللاجئ ) ألا تكفيكم صدى حروفها لتفهموا مدلولاتها ..
وهل لديك ضمانات من ربك أن لا تكون ذات يوم لاجئا نازحا تتوسّل الجنود على الحدود أن يُنقذوك من الموت المُحتّم خلفك ولا خيار لديك ولا بدائل؟!
( اللاجئ ) هو من لاذ بك بعدما ضاقت به السُّبُل ، هو من أسند رأسه على جدران إنسانيتك، إسلامك، عروبتك، ليستند إليه، إليك بعدما انهدمت جدران داره على يد جيش ونظام مُجرم كان الأصل أن يكون له سنداً وحامياً بعد الله ورزْءا ..
كلّما دارت مقلتي نحو مكتبتي أرى قبساً من رحم العلم ينادي .. أرى انعكاس أصحابها في مُجريات الأحداث والذين لهم فضلٌ علي .. أراهم يعاتبونني كلّما اقتربت من كتبهم أراهم يشيحون بأنظارهم عني ، ويهمسون لي :
" يا إحسان .. أوليس لأهل العلم والقلم فيكم رَحِماً .. ؟!!
فخرجت من مكتبتي ..
ولسان حالي يقول يا حكومة لا رشيدة بغياب أهل الرُشد تسيّدت،
يا شرفاء القوم، يا من نظن فيكم أملا من خير، افتحوا الحدود لأبناء الدين والدم، فإني بتّ أخشى أن استيقظ صباح الغد وكلما نظرت إلى وجوهكم أرى انعكاس صورة المجرم بشار الأسد وخامنئي وبوتين وحسن نصر اللات وترامب في صوركم .. في صوتكم.. في قراراتكم .. أرى آثار الدماء على أظافركم ..
يا أهلنا افتحوا الحدود فإن لأهل درعا فينا فضلاً وكرماً ، وبيننا وبينهم رحما ونسباً ، لعل الله يرفع عن بلادنا الكرب بتنفيس كروبهم، وإن خذلناهم اليوم، فلن يغفر الله لنا ولكم خذلانهم ..
فهل غدا فينا الكريم بلا عُمْر لأنه طالب بحريّته وعدالة الحياة .. عليكم سلام الله يا أهلنا في سوريا .. ويا أهلنا الواقفين على الحدود وغبار العروبة تخنقكم .. عليكم سلام الله .. وصدقت يا ابن حوران ..
عليك سَلامُ اللهِ وَقْفاً فإنَّني .. رَأيتُ الكريمَ الحُرَّ ليسَ له عُمْرُ ..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
وسوم: العدد 779