كأس العبودية والكشري!

رأيته في منامي. بدا بوجهه المهيب غاضبا وحانقا، لم أستطع أن أكلمه. قال لي : ألا تعرفني؟ أنا جدك البعيد. قلت له: إني أعرفك. أنت جدي الشيخ عبد الرحمن بن حسن برهان الدين الجبرتي (1753- 1822). لماذا أنت غاضب هكذا؟ قال: انهض، هات ورقا وقلما وسجل ما أمليه عليك. قلت له: يا جدي، نحن في عصر الكمبيوتر، والكتابة على لوحة المفاتيح. قال: لا شأن لي بعصركم. اكتب.. قلت: هات. قال: حوادث شهري رمضان وشوال من عام 1439 للهجرة المحمدية المباركة، الموافقين شهر يونيه الأسود سنة 2018من ميلاد المسيح عليه السلام. جرت في مصر المحروسة أحداث جسام، جعلت الناس تمدح العبودية، وتفوز بكأسها العالمي، وتقيم احتفالات ممتدة من جنوب الوادي حتى بلاد الموسكوف لموت الشعب الاجتماعي والسياسي والثقافي والتاريخي، فقد انهزم المنتخب القومي هزائم ثقيلة، وقام الوالي برفع أسعار البنزين والمحروقات، وأشعل أرقام فواتير الماء والكهرباء والغاز، وضاعف رسوم الشهادات والرخص والجوازات، وكذا أسعار الركوب في السيارات والباصات والمترو، وأثمان العلاج والدواء، وجار رفع تذاكر القطارات والطيارات، وهو ما أدى إلى ارتفاع جميع الأسعار بدءا من الحليب واللحوم والأسماك والخضروات والفاكهة والعسل والبصل والفول المدمس وفلافل الطعمية، والمخبوزات، ولم يبق في قدرة العامل البسيط أو الموظف الكحيان أو الفلاح المعدم الحصول على شيء، وتتوعده الصحف والفضائيات والإذاعات برفع الدعم عن الخبز والسكر والزيت عما قريب.

أما مليارديرات الحديد والأسمنت والطوب والرمل والزلط والسيراميك والتريلات العمياء والمقطورات الراقصة، والدبابات الملونة والباصات الهادئة والميكروباصات المعفرتة والتاكسيات البيضاء والحمراء والخضراء والسوداء، فقد قالوا: سنرفع مثل الحكومة 66,7%ـ واللي مش عاجبه يخبط دماغه في أقرب....

وفي حوادث هذا الشهر أن عدد المحبوسين بسبب السياسة قد ازداد وربما تجاوز المائة ألف، وأن عدد المطاردين بلغ الملايين، والمحكومين بالإعدام الفا وأربعمائة، والمحالين إلى المفتي ثلاثة آلاف وخمسمائة، والرئيس المسلم الشرعي ملقي على البلاط للعام السادس، يعاني من السكر والكبد ويكاد بصره يذهب لا أنيس ولا جليس، ليكون عبرة لمن لا يعتبر ويحاول أن يخدم بلاده بإخلاص ونزاهة وصدق.. قلت: يا جدى توقف. كل هذا معروف، والناس تعلمه في مشارق الأرض ومغاربها. أشار بيده، وقال توقف أنت. وواصل حديثه: إن ما يجري في عصركم أشد وأقسى مما سجلته في كتابي «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، والأشد منه والأكثر قسوة، هو موقف العامة وطلائعهم من الطبالين والزمارين والأوباش في الفضائيات والإذاعات والصحف، والخطب والمؤتمرات. إنهم يسمون طحن الفقراء والمساكين والبسطاء، إصلاحا اقتصاديا، وإعادة الاقتصاد إلى مسيرته الطبيعية. قلت له : يا جدي : إن الدعم وصل إلى مبالغ خيالية لا تحتملها ميزانية أم الدنيا؟ انقلب وجه الشيخ الجليل، وانعقد ما بين حاجبيه في قهر واضح، وقال:

تعلموا احترام اللغة والمصطلحات، استخدموها بدقة. الإصلاح أن تصحّح وتقوّم، لا أن تدمّر وتقوّض. ما يسمونه إصلاحا هو اقتراض بلا حساب، وإنفاق سفيه في  الفاشوش، وإغناء اللصوص الكبار بالقانون، واعتصار شديد للحوم الفقراء والبسطاء حتى آخر نقطة دم لديهم. الإصلاح الاقتصادي له منهج مختلف، يتمثل في إعداد البلاد للإنتاج الزراعي والصناعي، وتعظيم الصادرات وتقليل الواردات، وقبل ذلك وبعده عدل بين الناس. هل من العدل أن يكون أمين الشرطة أفضل ماديا ومعنويا من أستاذ الجامعة؟ هل من العدل أن يكون الشاب الذي يُعيّن في الاتصالات أو البنوك أو الخارجية أو القضاء أو الجهات التي يسمونها سيادية أكبر من أساتذته في الجامعة مرتبا ونفوذا؟ هل من العدل أن يقوم الإصلاح الاقتصادي على تلال من قمامة الفساد والبيروقراطية والظلم الاجتماعي والتعليم المنهار والفنون المبتذلة والأبواق المأجورة....؟ هل من العدل أن تمتلئ السجون والمعتقلات بعشرات الألوف من الشرفاء والنبلاء وأصحاب الضمير، بينما اللصوص الكبار والفسدة مطلقو السراح يمرحون ويلعبون، ولا يعنيهم أن ترتفع الأسعار أو تشتعل الدنيا من حولهم؟ فالأموال في أيديهم بلا حساب، وينفقونها كأنها مناديل ورقية يقذفون بها إلى سلال الزبال! قاطعته: يا جدي، إنهم يشيعون أن الشعب بليد ولا يعنيه العمل الجاد، وهو شعب مسرف متلف، ولا يحتاج إلى إنصاف، فالبواب يحصل على مبالغ طائلة يوميا وهو نائم بجوار زوجته ينجب مزيدا من الأطفال، وسائس الجراج يتقاضى عشرة جنيهات على نداء اكسر يمين اكسر شمال، والمتسول حصاده اليومي أكثر من ألف جنيه، ، وأمثال البواب والسايس والمتسول كثير، ولا بد أن يتقبل الشعب ارتفاع الأسعار..

بدا الشيخ الجليل مستغربا لما أقول، فربت كتفي قائلا: بني، الشعب ليس كله بوابين وسياس ومتسولين، الشعب فلاحون وعمال وموظفون ومعلمون وأساتذة وغيرهم، وأكثرهم لا يكفيه دخله إلا أياما في الشهر.. وتأمل ما يحدث من جرائم وصلت إلى حد انتحار كثير من الناس بسب المعيشة الضيقة، وقيام بعضهم بقتل أسرته ثم قتل نفسه، خوفا عليهم من الحاجة، هل كان يحدث ذلك من قبل؟ نحن في طريقنا إلى شدة مستنصرية، أكل الناس فيها الكلاب والخيول، وإن كنا سبقنا وأكلنا  الحمير!

والتفت الشيخ يمينا ويسارا، وقال بنبرة أسى: لقد سكت الشعب وتقبل كل شيء بهدوء، ولم يعد قادرا على شيء إلا النكت الباردة السقيمة، والتصفيق للوالي. لقد مات الشعب، بعد أن ماتت السياسة والرياضة.. قلت : إلا الرياضة يا جدي، فلنا بعثة ضخمة في كاس العالم الذي ذهبنا إليه بعد 28 عاما؟

قال: سامحك الله، الرياضة؟ في كل دول العالم الرياضة نشاط ترفيهي، يتم من جيوب الأغنياء وعشاق الكرة. إلا في المحروسة وبلاد العرب، فهو نشاط دولة ويتم تحت رعاية الولاة والحكام، وتخصص له الميزانيات الضخمة التي لا يخصص منها واحد في الألف للبحث العلمي. ويقوم على أمر الرياضة جيوش من المنتفعين والسماسرة، وقد وصل الأمر بالمسئولين عن الكرة في بلادنا أن تسلموا مليون وثمانمائة ألف دولار من الفيفا، وبدلا من إنفاقها على الفريق، حولوها إلى سبّوبة، بعد أن قبلوا دعوة حاكم الشيشان الذي تلاحقه تهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وذبح شعبه المسلم بأوامر الصليبي الدموي بوتين! فأقاموا مجانا على مسافة بعيدة مرهقة، وورطوا اللاعب الفلاح البسيط محمد صلاح في أمور سياسية لا يفقهها، وهو ما كتبت عنه صحف الاندبندنت، والجارديان، والموند وغيرها..!

المفارقة أن بعض المصريين في موسكو دخلوا مسابقة الطعام ففازوا بكأس الكشري والطعمية، خسرنا في الرياضة والحرية والعدل، وكسبنا كأس العبودية والهزيمة والخيبة.

الله مولانا. اللهم فرّج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!  

وسوم: العدد 780