ما بين كهف غزة وكهف تايلند
تنفس العالم الصعداء أخيراً عقب نجاح الغواصون في شمال تايلاند بإنقاذ الاثني عشر طفلا ومدربهم بعد 17 يوما قضوها محاصرين في كهف غمرته المياه، حازت عملية الإنقاذ ومحنة الأطفال على اهتمام عالمي واسع النطاق وقد احتلت مساحة كبيرة من اهتمام الرأي العام في شتى أرجاء العالم.
وتداعت فرق إغاثة من مختلف أنحاء العالم للمشاركة في عملية الإنقاذ، وقد أشارت تقديرات أن عدد الأفراد الذين شاركوا في عملية الإنقاذ بلغ 1000 شخص، إلى جانب حديث خبراء في مجال الإغاثة والكوارث عن أفضل الممارسات للقيام بعملية انقاذ تضمن سلامة الأطفال.
ولضمان تجاوز الأطفال للصدمة النفسية الناجمة عما مرو به فقد تم توجيه دعوة لهم لحضور المباراة النهائية لكأس العالم وتعبيراً عن وقوف العالم معهم في محنتهم.
تجلت الإنسانية في أبهى صورها، وتم التعبير عن أجمل صور التضامن بين الشعوب ومع عائلات الأطفال المحتجزين، بل أن أطفالاً وشعوباً تتعرض للقتل والإبادة قد واصلت صلاتها ودعائها لأن يتم انقاذ الأطفال وأن يعودوا لعائلاتهم بسلام.
المحزن في الأمر بأن إنسانية العالم تتجزأ وتقف عاجزة عن مجرد الاهتمام والدفاع عن أقران هؤلاء الأطفال ممن يرزحون تحت نيران المدافع وقصف الطائرات ومصادرة حقهم في العيش الكريم والتنقل بسلام.
بلغ عدد الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة ما يزيد 900 ألف طفل طفلًا في قطاع غزة (حسب النتائج النهائية للتعداد العام للسكان والمساكن والمنشآت 2017)، منهم 20 ألف يتيم، و11 ألف طفل لديهم على الأقل أحد أشكال الإعاقة.
فيما استخدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين في مسيرات العودة الكبرى الأمر الذي أدى إلى استشهاد وجرح الألاف من الأطفال بنيران قناصة الاحتلال عن سبق إصرار وترصد دون حتى إدانة دولية بالمستوى المطلوب والتي اكتفت بالتعبير عن القلق أو طلب ضبط النفس.
وبالعودة لعدوان صيف 2014 الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد غزة فقد بلغ عدد الشهداء 2139 بينهم 579 طفلا و263 امرأة و102 من المسنين. وعدد الجرحى 11128، منهم 3374 طفلا و2088 سيدة و410 مسنين، فيما ترك العدوان 65 ألف فرد معظمهم من الأطفال حتى اللحظة دون مأوى، بالإضافة لوجود حاجة لعمل تدخل علاج نفسي لأكثر من 300 ألف طفل والذين يُعانون من صدمات نفسية نتيجة العدوان.
أكثر من 2 مليون إنسان يعيشون في ظل ظروف إنسانية مأساوية، وأوضاع كارثية نصفهم من الأطفال في كهف غزة تحت حصار مشدد منذ أكثر من اثني عشر عاماً ويزداد شدة حتى أن صحفاً إسرائيلية وصفت الوضع بأن غزة في طريقها من كونها أكبر سجن في العالم إلى أكبر زنزانة في العالم بعد رزمة العقوبات الأخيرة التي فرضتها قوات الاحتلال على غزة، بالتزامن مع استمرار عقوبات السلطة الفلسطينية على القطاع.
القلوب التي ابتهجت لإنقاذ الأطفال في كهف تايلند، وعبرت عن تضامنها بالدعاء والكتابة والمتابعة عن كثب، وقفت حائرة مستغربة من صمت العالم وعجزه عن انقاذ الأطفال في كهف غزة، فالإنسانية التي تنادت بكل امكانياتها وطواقمها في تايلند، تركت أطفال غزة يواجهون ظلمات الحصار والعدوان والمرض والفقر في كهف غزة، فيما تشاهدهم دون حراك وهم يغرقون في بحر العوز والحاجة، ودون أن يُبادر العالم الحر في مد خط أسطوانات الأمل، أو يطرح فكرة خلاقة لانتشالهم من الكهف الذي يزداد ظلمة وتزداد عليه الأزمات والكوارث، ودون حتى أن يلتفت لآلامهم وينشغل بهم ويناقش همومهم.
من العبث التذكير في كل مرة بأن هذه الظروف الكارثية ستدفع الشعب الفلسطيني دفعاً نحو الانفجار، وأطفاله نحو الانغلاق والتطرف، ولربما يستيقظ العالم ويتحرك حين يكون قد فات الآوان ولم يعد هناك مجال لتدارك ما كان يمكن تداركه.
الحياة في غزة شبه معدومة ومن فيها أشبه بمن فقد الأمل في الحياة ولم يعد يثق بأحد، مشغول ما بين توفير حاجاته ولملمة جراحه، ومالم يكن هناك تدخل حقيقي لإنقاذ المحتجزين في كهف غزة فالجميع سيتحمل نتائج ما يحدث.
والمطلوب هنا حلاً جذرياً لا حلا انسانياً يُساهم في التخفيف من وطأة الحصار ويحسن من ظروف البقاء رهينة الكهف، يستحق أهالي قطاع غزة مطاراً وميناء يضمن لهم حرية الحركة والتنقل دون أن يتم ابتزازهم عبر حاجز أيريز ودون انتظار قوائم السفر والخوف من المنع عبر معبر رفح، ويستحق الشعب الفلسطيني وحدة وطنية تُعيد البوصلة باتجاه معاداة المحتل والتحام الجسد الفلسطيني الواحد وتعزيز مقدراته الوطنية ومكتسباته النضالية بما يحقق حلم التحرير والعودة.
على قادة العالم أن يُدركوا بأن شعب فلسطين لا يمكن أن يبقى في مربع تلقي الضربات وتحمل الإيذاء، وعلى قادة الوطن أن يُدركوا بأن من يواجه بطش الدبابات ونيران القناصة بالصدور العارية يستحق قادة بحجم تضحياتهم وسيدوس كل من يفرط بهم ويُضيع حقوقهم، فالوقت يُداهمكم فأحسنوا الصنيع للوطن والمواطن وإلا فالاستبدال قادم.
وسوم: العدد 780