الربيع العربي تحت المَجْهر الحلقة العاشرة
هل نَجَحت (الثوراتُ المُضادّة) في القضاء على (الربيع العربي)؟
▪من ينظر لما حدث في بلدان الربيع العربي من تراجعات وتجاوزت في بعض الأحيان، ما كان عليه الوضع من سوء قبل الثورات كما في مصر، سيقول بدون تردد بأن الثورات المضادة قد نجحت في القضاء على ثورات الربيع العربي تماماً، وقد يملأ اليأس قلبه فيعتقد أنه لا أمل يلوح في الأفق على المدى المنظور، وأن الأمة لا يمكن أن تتحرر من واقعها إلا بمجيء المهدي المنتظر أو نزول المسيح المُخَلّص!
▪ونستطيع القول ابتداءً: بأن الثورات المضادة قد حققت نجاحاً كبيراً، حيث عادت الدُّول العميقة والكيانات الموازية في بلدان الربيع من النوافذ بعد أن خرجت من الأبواب كما في الحالة التونسية واليمنية والليبية، حيث أن أكثر الذين يتصدّرون المشهد اليوم هم من رموز الأنظمة السابقة، فرموز الحزب الدستوري في تونس هم من يحظون بالجزء الأكبر من السلطة، وفي اليمن ينتمي رئيس الجمهورية ونائبه ورئيس الحكومة وأكثر الوزراء والقادة إلى حزب الحاكم المطلق علي عبد الله صالح، بجانب أن جزءا من البلاد صار بعد الانقلاب الحوثي يرزح تحت سيطرة أزلام النظام القديم، سواء كانوا ممن حكموا قبل فبراير 2011 أو قبل سبتمبر 1962، وفي ليبيا يقود ضابط متقاعد من أزلام القذافي الثورة المضادة باسم الجيش الوطني الليبي وبدعم شامل من دول الضرار لدرجة أن الطيران المصري والطيران الإماراتي صارا رهن إشارة حفتر!
▪أما في مصر فالمأساة أدهى وأمَرّ، فقد أُمّمت الثورة المضادة كل مُكوّنات ثورة يناير وما نتج عنها من أحزاب ومؤسسات مجتمع مدني، واجتاحت كافة الحقوق التي جاءت بها ثورة يناير، وشهدت البلد ردة هائلة عن الحريات وعادت القهقرى مرات عديدة، حيث اقتيد ما يزيد عن أربعين ألفًا إلى السجون وأكثرهم من صفوة المجتمع، وحُكم على المئات منهم بالإعدام ويتعرضون لصنوف من التعذيب، وعلى رأسهم الرئيس مرسي الذي لم يُنتخب غيره في تأريخ مصر الحديث، وصار الوضع خانقاً لدرجة أن كثيرين يتمنون لو أن عهد حسني مبارك يعود!!
▪غير أن نظرة متفحّصة في سُنن الله ومراجعة أحداث كثير من الثورات الكبرى تُبيِّن أن هذه الارتدادات أو الرِّدات متوقعة وقد تكون طبيعية بالنسبة لنظم استبدادية تجذرت في أعماق الواقع خلال عقود طويلة من الاستبداد والتفرد بكل شيء، ولا تُمثّل هذه الثورات المضادة نهاية الأحداث الحاصلة. فقد تعرضت المجتمعات لتجريف طويل للوعي وتخريب للعقول، وظلت عرضة لتشويه الحقائق وتزييف الوقائع طيلة عقود من الزمن، بجانب تَخندُق الغرب وأخطاء الثوار التي توزعت في جبهات الأفكار والأفعال أو التصورات والتصرفات؛ نظرا لأنهم آتون من بيئات مُترعة بالتخلف ويعملون في بيئات غير صحّية وعاجّة برياح السموم!
▪وينبغي في تفسير ما حصل التركيز على عامل مهم في هذا السياق ويرتبط بطبائع الجماهير وأوضاعها، فهناك قسم عريض من الناس يعاني من تفشّي الأمّية بشقيها الأبجدي والفكري في أوساطه، ومن ثم فإن هؤلاء يعانون من خلل في الفهم ومن تَشوُّش في الرؤية، وهؤلاء يكونون لقمةً سائغة في العادة لمن كان صوتهم أعلى ويَدُهم أطول، ولا شك أن أنظمة الجور التي حكمت عقودًا من الزمن بتفرد كامل تمتلك الكثير من الأصوات الإعلامية والخبرات الكثيفة في التعامل مع عامة الناس، بجانب امتلاء أيديهم بالأموال وامتلاكهم لسطوة القوة، مما جعل أصواتهم مسموعة وأسواطهم مرهوبة!
▪ولا شكّ أن قطاعات عريضة من هؤلاء الناس قد ارتبطت بمصالح عميقة مع الأنظمة التي ثار ضدها الأحرار، وقد رأينا في كل البلدان كيف هبّت مجموعات من الناس للتخندق مع الثورات المضادة ضد الربيع وذلك للدفاع عن مصالحها، بل إن بعض هؤلاء قد اعتقدوا بأنهم يدافعون عن وجودهم بسبب الخطاب غير الرشيد لبعض الثوار أو التحريض والتشويه من قبل أجهزة الأنظمة القديمة والتي أوهمت هؤلاء أن هذه الثورات جاءت لاقتلاعهم من الجذور، وأنهم سيتعرضون لاجتثاث على شاكلة ما تَعرَّض له البعثيون والسُّنّة في العراق على يد النظام الشيعي الذي تأسس بعد إسقاط صدام حسين!
▪ ومن العوامل التي ساعدت في تحقيق الثورات المضادة ما حققته من نجاحات منها إلفة الشعوب لحكامها الذين عاشت معهم ردحاً من الزمن، وهناك أجيال عديدة لم تعرف منذ ولادتها غير هؤلاء الحكام، ولا يملك هؤلاء في الغالب الخيال المناسب لاستشراف المستقبل، حيث يخافون من المجهول ويستعظمون المآلات التي يمكن أن تؤول إليها هذه الثورات، ولاسيما بعد أن رأوا كمية الفوضى التي حصلت بعد الثورة وحجم التآمر الدولي عليها، ومن ثم فقد أصبحت هذه المجاميع عرضة لاختطاف العقول وتشويه الوعي، من قبل رماة هذا العصر وسحرته وهم الإعلاميون الذين نجحوا باقتدار في تكريس الواقع وتزيين العبودية بعد أن أيقظوا مخاوف الناس واستثاروا محاذيرهم، بجانب الطيبة الساذجة لكثير من الجماهير التي تعتقد أن الوقوف في خندق الأنظمة السابقة إنما هو نوع من الوفاء!
▪ويزيد الطين بِلَّة أن عامة الجماهير المسلمة ونتيجة الأزمة الفكرية التي تعيشها الأمة عامة؛ تعاني في عقلها الباطن من خوف عميق من المستقبل، فقد تسربت إليها أفكار أوجدت لديها قناعات بأن كل عام أو عقد من الزمن لابد أن يكون أسوأ من ذي قبله، حيث أنهم ضحايا ثقافة الجبرية الزمانية والأفكار التشاؤمية التي لا تقنعهم بأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان فحسب، بل وتزرع في وعيهم بأن كل حاكم لابد أن يكون أسوأ ممن قبله إلى أن تقوم الساعة على شرار الخَلْق!!
▪غير أن كل ما حدث حتى الآن لا يعني بأن عقارب الساعة ستتوقف عند هذا المشهد ولا أن الكُرة السُّنَنية ستتوقف عن الدوران، ولا يعني بأن الليل لن يعقبه فجر ولا أن مكر المستبدين لن يواجهه مكر الأحرار، فلا تزال الأيام تشهد حراكاً كحراك البحر، ولن تتوقف حركة الثورات عن المَدّ والجَزْر، وهناك في كل بلد من بلدان الربيع العربي مواجهات تأخذ صورا عدة بين الأحرار والعبيد، بين رواد الثورات الراغبين في استعادة الانعتاق وبين دعاة العودة إلى الحظيرة وبيت الطاعة، وفي بعض هذه البلدان تبدو الكفّة راجحة للثوار الأحرار.
▪إن سُنَن الله ماضية في تقرير الحقيقة الكبرى والتي لا تتغير ولا تتبدل، وهي أن البقاء للأفضل والأقوم وأن النصر للأصلح والأصبر، كما في قوله تعالى: {فأما الزَّبَدُ فيَذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيَمكُث في الأرض}، وها هي وعود الثورة المضادة في مصر وتونس مثلاً تتبخّر جُفاءً أو تبدو للناس كسراب بقيعة، وها هي مساحيق التجميل تذوب وتسقط الأقنعة المستعارة لتظهر الوجوه القبيحة التي استغفلت العامة وخدعت الناس، لتمضي سُنّة الله تعالى التي تقول: {ولقد كتبنا في الزَّبور من بعد الذكر أن الأرض يَرثها عباديَ الصالحون}، ولا شك أن دعاة الحرية أصلح من دعاة العبودية، وأن جنود العدالة أخيَر من جنود الظلم، وأن رموز المساواة والوحدة أحسن من رموز التفرقة والتشرذم، ولا تزال مشيئة الله تقول بأن {العاقبة للمتقين}، وهم الذين يعبدون الله في محراب الحياة بشمول والتزام، بحيث لا يجدهم في ثغرات النواهي ولا يفقدهم في ثغور الأوامر.
ومرة أخرى تخبرنا سُنن الله بأن بقاء الحال من المحال، وأن الأيام دُوَل بين الناس، كما قال تعالى: {وتلك الأيام نُداولها بين الناس}، وما على الأحرار إلا أن يُعِدّوا لأيام النور ما تحتاجه من خُطط وعُدَد.
▪إن انتصار ثورات الربيع العربي حتميّ وفق سُنن الله الغالبة، لكن هذه الحتمية لا تعني أن النصر سيأتي عن طريق معجزات خارقة أو سيتحقق بطرق آلية لا دخل للناس بها أو عن طريق مصادفات عمياء، إنها تعني أن مَوجة الأحداث تسير لصالح الأحرار وما عليهم إلا أن يَتدرَّعوا بالصبر وأن يتسلحوا بالأمل والعمل، وأن عليهم أن يُحكموا الخُطط وأن يُحسنوا الدخول من أبواب متفرقة حسب الإمكانات المتوفرة والمُتاحات الممكنة، وعندها سيأتي النصر على طبق من ذهب الأقدار، وإن غدًا لناظره قريب، والعاقبة للمتقين.
وسوم: العدد 780