تقـديم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يكن يعلم ، والصلاة على نبي من أنفسنا محمد e وعلى صحابته جميعًا، وعلى من رضي اللهُ عنهم من آله، ومَنْ تبعه إلى أن يكرمنا الله بصحبته في جنات النعيم.
العلّامة الشيخ علي الطنطاوي زاده الله علوًّا في حجته، والأستاذ الفاضل حمدي الأدهم متعه الله بالصحة وزاده توفيقًا في خدمة العلم وأهله، وهذا الكتاب.
ما أشدَّها من رهبةٍ تملأ نفسي حينما أحاول الحديث عن علامة بلاد الشام، وأحد أهمِّ دُعاةِ الإسلامِ الوسط الحنيف الذي منَّ الله عليه به، وعلينا وعلى أمة الإسلام على ما يتوالد فيها من أجيال... فهو الأديب اللبيب، والحافظ الفطن، ثم هو القاضي العادل، ثم هو الداعية، والمتحدث الذي طالما حنت الملايين للاستماع إليه، وطالما كانت تقفل أبوابُ من المستمعين إليه بمجرد دخوله في الحديث، فتفصل الهواتف عن الرنين ليتفرغ أصحابُها لمتعة الاستماع إلى حديثه العذب، وأسلوبه الذي لا تختلف القلوب في التأدب به مع الاستماع إليه كأروع ما يكون الحديث وأعذب، ثم هو بين هذا وذاك المؤلف في الفكر، والتاريخ، والأدب، والمنقب عن أجمل ما في التراث من طرائف ومُلَحٍ وقصص فيها الفائدة والعبرة المحببة التي تتسرب إلى العقول قبل الأسماع لتستقر فيها أبدًا.
ذلكم بعض ما يعرفه كل من أكرمه الله واستمع إليه محدثًا، أو قرأ له مؤلِّفًا فطنًا جمعت له أمجاد التأليف من جميع أطرافها... وحسبنا القول إنه:
الشيخ العلامة المحدث علي الطنطاوي، رحمه الله، وغفر له... وكي لا يكون الكلام إنشائيًّا أنقل للقراء الكرام قصة تحمل الكثير من فهم هذا الرجل العظيم لروح الإسلام وحقيقته.
الشاب شبه المعجزة أو قل المعجزة نفسها في زمانه في أدبه وفصاحته وتُقَاه وروعة خطبه التي كانت تحتشد الآلاف بها للاستماع إليه حين كان عدد سورية الحبيبة دون الخمسة ملايين، ولم تكن المواصلات ميسورة، ولا وسائلها متاحة، ولم تكن أجهزة وسائل إيصال الخطب المتاح سماعها مباشرة في إمكانية استخدامها على النحو المرجو... كان العشرات من المئات الذين يتوافدون يوم الجمعة لسماع هذا الخطيب، فإذا بساحات جامعة دمشق وما حولها من الشوارع تغص بالذين يفترشون سجاجيدهم، أو ما يتاح لهم للسجود على الأرض... وكيف لا والخطيب هو "عصام العطار" الذي تحس وأنت تستمع إليه أن المنبر يهتز أو يكاد تحت قدميه، وأحسب أن الله كان ييسر للوافدين إمكانية الاستماع إليه، وليس الهدف هنا من هذا الحديث عن "عصام العطار" إنما هو مقدمة لقصة تكاد أن تكون فريدة حدثت بين هؤلاء المصلين خلف عصام العطار في جامعة دمشق، من بين هؤلاء وفي مقدمتهم وفي الصف الأول كان يصلي الشيخ الأديب القاضي علي الطنطاوي، فوقف يقول: أيها الناس اشهدوا أنني زوجت "عصام العطار" ابنتي "بنان" (رحم الله بنان وأعلى درجاتها في فردوسه) إنْ قَبِل! ويالعصام من رهبة هذه المفاجأة، ويالدموع عصام الحارّة منهمرةً على وجنتيه الوضيئتين بنور الإيمان ، لكن إيمانه العميق، وفهمه لسنة نبيه e يوقظه ليقول:
وأنا قبلت وأمهرتُها... وقَبْلَ أن يتمَّ عصام كلامه قاطعه الشيخ الجليل بقوله: بعشرة قروش يا عصام!!
عشرة قروش!!... أجل عشرة قروش هي مهر ابنة الشيخ الجليل علي الطنطاوي "بنان" الصبية النقية من فريدات زمانها علمًا وأدبًا وتقوى... أهذا هو مهر ابنتك "بنان" يا شيخ علي؟!!
وهل هذا مهرك يا عصام؟!! يالله حينما يصدق الإيمان!...
وتم العقد على هذه الحالة...
وأذكر أنه تم تجهيز منزل هذين العروسين الكريمين ليكون مثالًا عمليًّا لسنة نبينا e.
هذا جزء يسير يسير عما يمكن الحديث به عن الشيخ، وعلمه، وفهمه لسُنّة نبينا e، وقد أصبحت هذه القصة سنة متبعة للتخلص من مغالاة أهل دمشق بالمهور التي لا يجدها كثيرٌ من الشباب الذين هم في أمسّ الحاجة إلى الزواج وما يؤمل به من استقرار للزوجين، وللأُسر، وللوطن بعامة... فجزى الله شيخنا الجليل على إحياء هذه السنة التي كان لي شرف العمل بها والحمد لله.
وماذا بعد عن مؤلف هذا الكتاب؟ إنه:
الأستاذ الأديب حمدي الأدهم نفع الله به، وزاده علمًا وعملاً، قرأ في وجهي أنني سوري فبادرني بمجموعة أسئلة كان خلاصتها: هل تعلم شيخًا دمشقيًّا اسمه الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله؟
فكانت إجابتي له بمثابة فرحة غامرة، ثم أردف بأسئلة أخرى فقلت له: إن علّامة عصره – إن جاز لي التشبيه – هو عبارة عن قارورة عطر أو هو من أجمل العطور وأغلاها، ويؤسفني أنني لم أنل من هذا العطر الفواح سوى نفحة أو نفحتين، لكنهما كانتا كافيتين لأعلم نوع عطر هذه القارورة، فاستبشر خيرًا بإجابتي، وأردف يعلمني بأنه نال درجة الماجستير عن أدب الرحلات عند هذا العلامة الجليل وأنه مهتم بكل آثاره الخالدة.
وسرعان ما تبادر إلى ذهني تساؤل: هل في آثار هذا الشيخ العلامة ما يستأهل أن يكون مادة بحث لنيل درجة الماجستير؟ مع يقيني بأن كل باب من أبواب أدب شيخنا من شأنه أن يكون كذلك ... وأدركت بمجرد أسئلة طرحتها على نفسي... ألم يكن أولى بها الباحث الجريء أن يأخذ بابًا آخر من أبواب أدب هذا الشيخ وهي كثيرة كثيرة.
وسرعان ما اهتديت إلى القناعة بأن هذا الباحث لم يعمد إلى السهل الميسور، ولكنه وبهمة منه عالية، وبقدرة وصبر على البحث تخيَّر هذا الباب الذي يظن به أنه يحتاج إلى مزيد من التنقيب والبحث الدائم في آثار هذا العلامة، وذلك ما أعتقد أنه كان بتعاون وثيق مع الموجه لهذا البحث فضيلة الدكتور/محمد يونس عبد العال، المشرف على هذا البحث الذي تُوِّج بتوفيق من الله وعون بنجاح كان مؤهلاً له.
ذلك هو الباحث الناجح الأستاذ حمدي الأدهم مؤلف هذا الكتاب...
أما عن علاقتي معه فهي صحبة مسجد، ولقاءات على آثار أدبية، أحسن الظن من خلالها أنني أحقق له رغبة ملحة في أن أسطِّر مقدمة لهذا الكتاب.
وأنا أعلم يقينًا أنني لست مؤهلاً لذلك، ولكن رغبته الملحة وثقته بضالته عندي جعلتني أنزل على رغبته مستعينًا بالله، ملتمسًا العون على شريط ذكريات قديمة أفضت إلى ما من واجبي أن أعتذر عنه كل الاعتذار ...
وأما هذا الكتاب فله من التحقيق، والتوثيق، وعمق البحث، ودقة المعلومة، وحسن السبك، وجمال اللغة، وسلامتها، ومن العاطفة النبيلة التي لا تغيب روعتها عن صفحة واحدة من صفحات هذا الكتاب القيم بكل ما فيه، الممتع بكل ما اشتمل عليه، ما يجعله فريدًا في بابه جديرًا بالاقتناء في مكتبة كل محب لتراثنا الإسلامي، فإليه أدعو القارئ الكريم مستحييًا بكل حياء أمام كل ما في هذا الكتاب بدءًا ممن كان هذا البحث عنه، ومرورًا بمن أعده.
وفي الختام فإنَّ ما انتهى إليه فبتوفيق من الله... أدام الله توفيقه وبركاته على أخي الأديب الأستاذ حمدي الأدهم، وزاده صبرًا على المتابعة التي لم يكن هذا البحث إلا نتاجها الثرِّ ودليلاً عليها...
مع خالص الشكر والتقدير إلى المشرف الفاضل الدكتور/محمد يونس عبد العال...
وأجزل الشكر لمؤسسة "مفكّرون" العامرة الشامخة لنشرها هذا العمل المبارك،
وآخِر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...
وسوم: العدد 781