هل يمكن أن يكون الفراغ الكوني وهما؟
تسيطر على العقول (العلمية) فكرة أن الوجود هو فراغ هائل، تسبح فيه أجرام وكواكب ونجوم ضمن مجرّات هائلة.. وفي الحقيقة أن هذا تصور غريب يستفز الذهن، ويدفع للتساؤل حول مدى التصديق بهذا الفراغ الفسيح الذي (يملأ!) أرجاء الكون، ويوجب وقفة علمية ضمن هذا المسار المعرفي الذي نتفاعل فيه مع الأسئلة العلمية حول أصل الكون والحياة؛ لأنه يتشابك مع حقيقة الوجود وأصله، ونبدأ بالتفاعل مع السؤال عنوان المقال.
وتزداد أهمية هذا السؤال بعدما بيّنا في مقال سابق بُطلان الرواية العلمية المتعلقة بهبوط الأمريكان على سطح القمر (أو الشك فيها)، وهي التي قامت على فكرة التحليق في ذلك الفراغ الكوني وصولًا للقمر السابح فيه، ثم الرقص في الفراغ على سطحه!
ومن ثم، فإن ذلك الإنكار (أو الشك) يفتح باب التشكيك بحشد من الروايات العلمية التي تعلقت بتلك الأسئلة الجوهرية، وبموضوع الفضاء/الفراغ... إضافة لذلك فإن تفنيد ذلك التصور واتخاذ موقف فكري منه، هو خطوة جوهرية على طريق التفاعل مع تصوير العلم للأرض وأصلها وعلاقتها بما يحيط بها من أجرام. ومن ثم مع الموقف العقدي من الوجود، ومن سياق النصوص الكونية في الكتب السماوية.
وقبل طرح الموضوع، أود أن استثير ذهن كل مهندس (ميكانيكي، أو كيميائي، أو مدني، أو بيئي…) ممّن درس علوم الموائع الحرارية وتعامل معها في مهنته: هل سألتَ نفسَك يوما ما الذي يحفظ الغلاف الجوي على الأرض من التدفق نحو الفراغ المحيط به تحت تأثير القوة الدافعة الناتجة عن فرق الضغط والتي هي من ثوابت تلك العلوم؟
وإذا صدمك هذا السؤال، ومن الممكن أن يفعل، هاكَ سؤالًا آخر: هل سألت نفسك يومًا كيف تفهم تحليق أو توجيه المركبة الفضائية بالفراغ حيث لا قوى أو احتكاك حوله؟ والأهم من ذلك: ما الذي يمكن أن يوقف تلك المركبة بناء على تلك العلوم وقوانينها؟
أظن أن جواب كثيرٍ من المهندسين الذين يتعاملون مع الموائع وميكانيكيتها هو نفي التفكير، رغم امتلاك المعرفة العلمية الأساسية لذلك التحليل! وكنت مثلَهم قد دفعت عن نفسي قلق السؤال الثاني على وجه الخصوص، وسكّنْتُ التفكير على قاعدة (سكّنْ تسلم)!
وسبب ذلك السُبات الفكري هو أننا تلقينا الروايات العلمية الفضائية بالتسليم، واعتبرنا أنفسها – كمهندسين – خارج سياقها العلمي والمعرفي، مع أن المبادئ التي تحكمها، هي تلك التي نتعامل معها في الهندسة!
إذًا في موضوع الفضاء ("الممتلئ!" بالفراغ) هنالك معضلتان علميتان، واحدة تتعلق بإمكانية التحليق في الفراغ، والأخرى تتعلق بالقوة التي تحفظ الغلاف الجوي من التدفق نحو الفراغ تحت تأثير قوة فرق الضغط الموجب، استجابة لقوانين ميكانيكا الموائع، وهي التي تقضي – حِسّيًا – بحتمية تدفق الهواء نحو الفراغ حيث الضغط يساوي صفرًا! وإن لم يستطع العلم حلّهما حسب قوانينه، فإن الشك العلمي بوجود الفراغ الكوني هو أمر مشروع، وهو ما قد يفتح الباب على مصراعيه لإعادة النظر في التصور العلمي للوجود كله، ومن ثم لفتح باب التفكّر الميسّر في ظواهر النصوص القرآنية حول السماء.
وفي هذا المقال اقتصر على التفاعل مع جزئية من السؤال الأول: إذ إن من ثوابت العلوم الحسّية، أن الغازات تتدفق كمائع متكامل (bulk motion) من المنطقة ذات الضغط العالي إلى المنطقة ذات الضغط المنخفض، وهذا مشاهد ملموس في كل شيء يحيط بالإنسان، فمثلًا إن الغاز يتدفق خارجًا من البالون تحت تأثير فرق الضغط بين الداخل والخارج. وهذه الحركة تستمر حتى يحدث اتزان في الضغط بين المنطقتين.
وعندما المراجعة العامة للأطروحات المنتشرة، لم ألْحَظ أن هذه المعضلة تحظى باهتمام واضح أو كافٍ في الأدبيات العلمية ذات الصلة، مع أني أجده – كباحث في الموائع – أكثر سؤال جوهري في موضوع التصور العلمي للكون والأرض العائمة في بحر فسيح من الفراغ، حيث إنه إذا استحال حفظ الغلاف الجوي (الملموس حقيقة) من التدفق نحو الفراغ (المتصور علميًا) تحت تأثير قوة الضغط، فإن التصور العلمي للوجود قد ينهار تمامًا!
صحيح أنه من الصعب تحديد نهاية الغلاف الجوي، لكن ثمة تقدير (علمي!) أنه ينتهي عند حدود 100 كيلومتر أو تزيد، مع تباين في الكثافة كلما زاد الارتفاع، وجُلّ الهواء هو ضمن مسافة أقل من ذلك التقدير… ومن المشاهد المحسوس أن المنخفضات الجوية تؤدي إلى تحريك تيارات هوائية هائلة ضمن مسافات أكثر بُعدًا، وتحت فرق ضغط أقل من الفراغ، كما يسمع كل قارئ من الأرصاد الجوية؟
وفي هذا السياق، هناك من يطرح جوابا عاما (اعتبرُه سطحيا)، يُرجع فيه حفظ الغلاف الجوي من التدفق للفراغ لفعل الجاذبية الأرضية (1). وهو طرح يناقض أسس ميكانيكا الموائع، ولا يميز بين سلوك الغاز والسائل (المتماسك)؛ لأن المشاهد المحسوس أن الهواء يتدفق لأعلى كلما قلّ ضغطه، رغم الجاذبية.
ونحن نشاهد –بشكل ملموس- أن الهواء يتدفق إلى داخل حجرة المكنسة الكهربائية (الفراغ) من منطقة الضغط الجوي، ولذلك يحمل اسمها الإنجليزي معنى الفراغ الذي يشفط الهواء لداخلها (vacuum cleaner). ومن هنا، يمكن أن نتصور الفراغ الكوني مثل "شفّاطة كهربائية" لا تلبث أن تُبدد الغلاف الجوي وتُهرّب غازاته نحو الفراغ خلال لحظات، فما بالك بعد مرور مليارات السنين التي يقدّرها التصور العلمي كعمر للأرض!
ونتيجة سطحية ذلك الجواب حول الجاذبية، وضمن سعيي العلمي للحصول على أحدث الأطروحات العلمية في هذا الشأن، تواصلت علميًا مع إدارة صفحة (ناسا بالعربي) المشهورة في نشر مواضيع علمية ذات صلة بالأسئلة المصيرية التي نثيرها في هذا المسار المعرفي، وحصلت بيننا بعض المراسلات العلمية، لا يتسع المجال لعرضها هنا، إلا أنها لم تقدّم تفسيرًا مستقلًا عن فكرة الجاذبية هذه، وإن تضمنت محاولتها جوانب أخرى أشير إلى بعضها في المقال التالي.
وهنا نجدد السؤال للزملاء في مجالات الهندسة: لماذا لا تستخدمون الأسس العلمية التي تدرسونها وتدرّسونها للتشكيك على أقل تقدير في مشهد الفضاء الكوني الفارغ أو في اختبار أو انتقاد تفسير العلم لأصل الوجود؟
وللتأكيد على مشروعية هذا الشك العلمي، أجد من المناسب اقتباس الخبر الحديث المنشور على صفحة (ناسا بالعربي) حول تحرك جديد لفهم ديناميكيات الطبقة العليا من الغلاف الجوي، وفيه ما يشير إلى المعضلة المعرفية عند القول: من الصعب تاريخيًا ملاحظة منطقة الغلاف الجوي العلوي، حيث نفتقر إلى امتلاك المفهوم المعرفي بخصوصها…"(2)... وفي الخبر نفسه إعادة نظر في الفراغ الكوني بالقول: الفضاء ليس فارغًا تمامًا، إنه يعجّ بالجسيمات المشحونة سريعة الحركة، والمجالات الكهربائية والمغناطيسية التي توجه حركة الجسيمات… وفيه نقل عن ريتشارد إيستيس الباحث في فيزياء الفضاء في جامعة كولورادو بولدر: "يُعتبَر الغلاف الجوي العلوي مُتغيرًا ومُتقلبًا أكثر مما كنا نتصوره سابقًا، ومع ذلك ينقصنا الإدراك المعرفي حول طبيعة التفاعلات بين جميع العوامل المنخرطة في التفاعل".
هنا مؤشرات على بداية التراجع العلمي... وقد يبدو للمفكر حتمية فيزيائية لوجود حاجز (أو قُل سقفًا.. أو قوة خارجية) لحفظ غازات الجوي من التدفق بعيدًا في الفراغ حسب ما تفرضه العلوم الهندسية، وإن لم توجد تلك القوة فستستمر عملية التدفق حتى يتعادل الضغط بين المنطقتين، وذلك التعادل يعني أن تصبح الأرض محاطة بالفراغ بعد هروب الغلاف الجوي في الفراغ الكوني الفسيح (الذي يدّعيه العلم!) ولو تم حساب معدل ذلك التدفق من خلال فرق الضغط والمساحة الخارجية للغلاف الجوي، لتبين أن قيمته هائلة جدًا تفوق التصور؛ مما يؤدي إلى شفط سريع لغازات الغلاف الجوي نحو الفراغ، ولَتَبِعَهُ تبخّرُ المحيطات وشَفْطِها، ثم انعدام الحياة، فكيف صمد الغلاف الجوي لمليارات السنين حسب الطرح العلمي؟ بل إنه طرح لا يتناول أساسًا ذلك التدفق الكتلي للغلاف الجوي نحو الفراغ، مما يبدو غريبًا أمام ثوابت علم ميكانيكا الموائع! وهو ما يثير الشك والريب!
وإذا كان ذلك كذلك، فللقارئ أن يقرأ بسكينة راسخة: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا)، أو (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)، دون أن تقلقه أية تساؤلات – تشكّكية – حول مدى انسجام المشهد العلمي للفراغ الكوني مع ظواهر النصوص القرآنية ودلالات السماء، إذ إن التصور العلمي للفراغ لا زال هشّا وقد يكون وهمًا... وهنا أوكد أنني لا أطرح تفسيرًا لتلك الآيات، ولا أجيب حول التصور الفيزيائي للسماء، ولكني أقرأ تلك الآيات براحة الإيمان وسكينة التسليم، بعلم الخالق الذي لا يعلو عليه علم البشر
وفي المقال التالي شك متجدد بهذا التصور الفراغي من زاوية هندسية أخرى...
مصادر
1) غلاف جوي، ويكيبيديا رابط:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81_%D8%AC%D9%88%D9%8A#%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%B1%D9%88%D8%A8
2) خبر على موقع ناسا بالعربي بتاريخ 21/3/2018 بعنوان: " انطلاق بعثة جولد لمراقبة ديناميكيات الغلاف الجوي العلوي"، على الرابط: https://nasainarabic.net/main/articles/view/nasa-gold-mission-to-image-earths-interface-to-space
وسوم: العدد 801