في أشكال الانقلابات والانقلابيين
لا شكّ أنّ الإنسان العربي المنكوب بحكّامه المستبدّين لا يعرف رواجا لكلمة من كلمات المعجم السياسي أكثر ممّا يعرفه عن كلمة انقلاب ومشتقاتها فهي أكثر الكلمات المتداولة في العالم العربي. ذلك أنّ أغلب الدول العربية محكومة من قبل طغم عسكريّة جاءت بانقلابات. فلا تكاد تمرّ سنة أو سنتان إلاّ ويستفيق العالم العربي ذات صباح على انقلاب هنا أو هناك. فلا بدّ لكلّ انقلاب أن يفضي بالضرورة إلى انقلاب آخر. فطبيعة الانقلابات أن تستنسخ من بعضها البعض. وعلى طريقة الشاعر الكويتي عبد الله علوش : حفنة أسماء جوفاء ..أعباء تنجب أعباء.. أشياء تخلف أشياء.. وغباء في ظل غباء. حتّى أضحى الناّس يكرهون الانقلابات ويحبّونها في نفس الوقت. فهم يكرهونها لأنّها أينما جدّت تنتج الاستبداد والخراب والدمار ولكنّهم يحبّونها أيضا لأنّها تجعلهم يتعلّقون بالأمل : أمل أن يخلّصهم الانقلاب القادم من صاحب الانقلاب السّابق الذي كان قد جثم على صدورهم على مدى ثلاثة أو أربعة عقود من الزمن تميّزت و طغت عليها كلّ أشكال الفساد والاستبداد بما تنتجه من ظلم وقهر وعقاب فردي وجماعي وبغي وفجور.
فقد جرت العادة في هذا الصدد، أن يبدأ زعيم أو قائد الانقلاب بخطاب جديد غير مألوف وجذّاب يستميل به عواطف الجماهير المتعطّشة للتغيير نحو الأفضل، من مثل : "لا ظلم بعد اليوم. لا رئاسة مدى الحياة بعد اليوم ولا.. ولا.. ولا ...". كما أنّه يستهلّ فترة حكمه بالسماح بحرية الرأي والشروع في الإصلاح والتغيير. وما أن يستقيم له الأمر حتّى يقلب للناس ظهر المجن ويكشّر عن أنيابه وينقلب عمّا وعد به النّاس قبل خمس أو عشر سنوات. وعندئذ يدخل البلاد والعباد في دوّامة الاستبداد التي من بين إفرازاتها المقيتة كلّ من برقيات المناشدة والرئاسة مدى الحياة ونحوها. وقد فصّل القول في ذلك بإطناب المرحوم عبد الرحمان الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".
ولا يعتبر هذا السلوك خاصّا بقائد الانقلاب. بل إنّه سلوك كل الحاشية المقرّبة لمن كان يحكم وأغلب القياديين في حزبه. فما أن يجدّ انقلاب جديد حتّى ينقلب كلّ هؤلاء عن قائدهم وينخرطون في مناصرة قائد الانقلاب الجديد. بما يعني بالمفهوم الشعبي الشائع: "يقلبوا الفيستة". كانوا مع بورقيبة، ثمّ وبقدرة قادر أصبحوا مع بن علي. وتنكّروا لبورقيبة على مدى 23 سنة. ثمّ انقلبوا على بن علي وذهبوا إلى المنستير يترحّمون على بورقيبة في ذكرى وفاته !!! وهو ما يفسّر على نحو ما، لماذا لم ينخرطوا في الثورة ؟ ذلك أنّهم ببساطة أصحاب مشاريع انقلابية وليسوا من طينة الثّوار. ويؤكّدون يوما بعد آخر أنّهم فعلا انقلابيون. ليس هذا فقط، بل إنّ من بين الثّوار من انقلبوا على الثورة بعد أن خذلهم الصندوق. ومن بين السياسيين من خدّروا عقول النّاس أو بالتعبير القرآني "سحروا أعين الناس" بوعودهم الانتخابية وبمشروعهم العظيم الذي قالوا عنه ،"وكان نقولولكم عليه توّا ادّوخوا"، وبكفاءات حزبهم التي أكّدوا أنّها تستطيع تسيير أربع حكومات. فانقلب عليهم السحر وانقسموا إلى أربع أحزاب وأدخلوا البلاد والعباد في أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية خانقة.
ومن بين نواب الشعب من انقلبوا على أحزابهم و كتلهم الانتخابية، وظلّوا يتقلّبون وينتقلون من حزب إلى حزب حتّى وصلوا إلى الحزب الحاكم. فالثورة بعدما قلّصت من صلاحيات الرئيس إلى أقصى حدّ ممكن قلبت الموازين وغيّرت طابع الانقلابات رأسا على عقب. بحيث أصبحت الانقلابات تدار إمّا في رحاب مجلس النواب أو في فلك الأحزاب الحاكمة بعد أن كانت تدار في دوائر قصر الرئاسة.("وكيف ما يقولوا التوانسة : في الهم عندك ما تختار").
أمّا الإعلام فهو في مجمله مع الانقلاب لأنّه يقتات من الانقلابيين ومن ورائهم من الدوائر الإقليمية والعالمية لأنّهم يدفعون ويجزلون لهم العطاء. ففي زمن الاستبداد ينحاز للانقلابيين المستبدّين. وفي زمن الثورة ينحاز للثورة المضادّة التي تسعى للانقلاب والانقضاض على الثورة. ولكي ينجح هذا الإعلام في مهمّته يسعى لقلب المفاهيم المرتبطة بأساسات الدين والهوية والأخلاق. فيروّج للرشوة على أنّها هدية وللتبرّج والسفور على أنّه أناقة ورشاقة وللفواحش والمثلية على أنّها حرية شخصية.
ولايفوتنا هنا أن نشير إلى لوبيات المال والحيتان الكبيرة في عالم التجارة والاقتصاد. فما إن تستقرّ الأمور بعد كل انقلاب حتّى تحدث إضطرابا و فوضى في السوق، وتحتكر السّلع بحيث تلتهب أسعار الخضر والغلال واللحوم والأدوية وتصبح أسعار أغلب المواد الضرورية في تصاعد جنوني لا يحتمل.
على أنّ حكومة الانقلابات في تونس كانت ديمقراطية على نحو ما وعادلة مع هذا الشعب ومع هذا المواطن الضعيف فيما يتعلّق بموضوع الانقلاب. فقالت له نظرا إلى أنك لم تكن في يوم ما من بين الانقلابيين ولا من ضمن النواب الانقلابيين ولا من ضمن الإعلاميين الانقلابيين ولا من بين التجار أو ورجال الأعمال الانقلابيين فسنفسح لك بابا من أبواب الانقلاب يمكن أن تمارس من خلاله حظّك وحقّك في القيام بالانقلاب. وحينئذ يمكنكم أيها المواطنون والمواطنات أن تنقلبوا على بعضكم البعض وتأكلوا بعضكم بعضا وتأكلوا أموال بعضكم البعض.، وباللهجة التونسية "كولوا بعضكم"، وسوف أغضّ الطرف عن هذا الأمر بحيث "عين رات وعين ما راتش" و يكون ذلك عن طريق إطالة زمن التقاضي ورفع تكلفة التقاضي والحيلولة دون تنفيذ أغلب الأحكام. فتضيع حقوق النّاس وتكسد التجارة وتتقلّص المشاريع وتكثر البطالة. فهذا الامتياز في "القلبة" والاحتيال أسندته حكومة الانقلاب إلى المواطنين وحصرت مجاله فيما بينهم. أمّا فيما يخصّ المواطن مع الدولة فيكون هذا الامتياز ملغى. فمثلا عندما تصل المواطن فاتورة كهرباء تتضمّن مبلغا مرتفعا وخطأ واضحا تخاطبه الإدارة وتقول له سدّد الفاتورة ثم تقدّم بشكوى للمصلحة المعنية : "خلّص وبعد اشكي".
وفي الأخير لم يبق لي أيها السادة الكرام إلاّ أن أرفع إلى مجمع اللغة العربية رجاء ملحّا التمس فيه من حضرته، إن لم يكن لديه مانع، أن يحذف كلمة انقلاب ومشتقاته من قاموس اللغة العربية. فلعل الجيل القادم يصل إلى الحكم بواسطة الصندوق بعقليّة ديمقراطيّة خالية من الانقلابات.
وسوم: العدد 820