في رحيل الدكتور الطيب تيزيني
وما كان قيس هلكه هلك واحد** ولكنه بنيان قوم تصدعا
لعل هذا البيت الخالد يصدق كثيرا على الراحل الدكتور الطيب تيزيني-رحمه الله- كما يصدق على القليلين من المثقفين من أبناء أمتنا العربية الذين صدقوا ما عاهدو الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، لقد عرفت الدكتور الطيب كقارئ في التسعينات يوم هبت دار الفكر السورية لتنظيم جدال فكري حول الدولة والإسلام بمعية الراحل الدكتور البوطي- رحمه الله- وقد خطت في ذلك السجال نهجا جديدا بعيدا عن الشعبوية والحماسة الزائدة فاقترحت الموضوع للدكتور يكتب فيه وعرضت رده على الشيخ البوطي يبدي رأيه فيه معارضا ومفندا وطبعت تلك المناظرة الفريدة في كتاب والغرض من ذلك تشجيع الحوار الهادئ بعيدا عن العواطف الجياشة للجماهير والحماسة الدينية الزائدة التي تبهض الخصم حقه في التعبير ولذلك سوابق في المناظرة الفكرية الشهيرة بين الشيخ الغزالي –رحمه الله- ومأمون الهضيبي من جهة والدكتور فرج فودة-رحمه الله- ومن تابع تلك المناظرة الشهيرة يدرك المخاطر من فتح سجال فكري وجدال فلسفي وسط شعبوية الجماهير وقد دفع الراحل فرج فودة حياته ثمنا لتلك المناظرة الشهيرة والتي أكد فيها على الطابع المدني للدولة. ومناظرة أخرى بين الدكتور فؤاد زكريا من جهة والشيخ الغزالي والقرضاوي من جهة أخرى لقد كان حماس الجماهير للشيخين مشوشا على الدكتور فؤاد في عرض وجهة نظره نظرا لحماسة الجماهير التي جاءت للتشجيع لا للفهم والنقد والاعتراض .وهي حالة بائسة في الفكر العربي الحديث تبين الحد الذي وصلنا إليه من العماء والفوضى والاندفاع العاطفي بعيدا عن سلطة العقل والاحتكام إلى المنطق والموضوعية.
لقد نأت دار الفكر في تلك المناظرة المكتوبة بين الدكتور الطيب والشيخ البوطي عن ثقافة التشجيع والمناصرة وعدلت إلى ثقافة الحوار والاستماع والمجادلة بالحسنى وأحسب أنها وفقت في ذلك كثيرا.
وأعود إلى الدكتور الطيب – رحمه الله- فقد كان مثقفا طليعيا مشغولا بقضايا أمته شديد الإخلاص لقضاياها لا تأخذه لومة لائم في نصرة الحق الذي يعتقده يعضده عمق علمي وسلوك نظيف والتزام لا غبار عليه.
نحن نعيش اليوم في زمن الفصام الثقافي بين مفكر يعتقد ويكتب بطريقة توحي بنزاهته والتزامه وسلوك مناقض لذلك تماما يتجلى في تكالبه على موائد السلطة وبيع شرفه لقاء الأمن أو المكاسب أو التساقط - تساقط الفراش على النور- وما نوره الموهوم إلا تلك الجوائز-النفطية- التي يرتهن في سبيلها شرفه وذمته فيغدو مريضا بالوهم ومع الزمن تنكشف عورته ويظهر على حقيقته فينصرف عنه الجمهور ولن تغني عنه تلك الجوائز النفطية.
تحضرني حالة مثقف كبير وأكاديمي محترم قبل بالمنصب السياسي في حكومة مرفوضة شعبيا أيام الإطاحة برئيس مصر ومنتسب إلى الكتابة الروائية عندنا يدعي اليسار والماركسية سارع إلى قبول جواز سفر لأداء فريضة الحج ممنوح له من قبل الحاكم-المرفوض شعبيا- وإنها لمأساة حقيقية أن يتحول الماركسي إلى حاج على نفقة الحاكم ، وزميل له يكتب الرواية لا يستحي من الحديث عن شهرته حتى إنه أشهر من الوزير.!
لم يكن الدكتور الطيب من هذا النوع من المثقفين بل كان مثقفا طليعيا جادا نظيفا بعيدا عن إغراءات السلطة وأضواء الشهرة فلم يبع شرفه وضميره ويخون القضية الأولى قضية الأمة الراسفة في أغلال الاستبداد والجهالة والعماء.
لقد علل أدونيس مرة تخلفنا الثقافي والسياسي والفكري بنكوص وخيانة المثقفين أولئك الذين تسابقوا على قصور الثقافة عوض أن يدخلوا السجون وأحسب أن الدكتور الطيب –رحمه الله- من الذين لم يخفوا إلى قصور الثقافة بل إلى مدرجات الجامعة معلما وهاديا وإلى معترك الفعل الثقافي الحق بالكتابة والنضال الفكري الخلاق ولهذا كسب احترام الجميع وعاش عزيزا في وجدان بلده وفي ضمير أمته.
رحمه الله فهو بحق من المثقفين الذين لم يكتبوا المسامرات كابن العميد والصاحب ابن عباد للسلطان كما وصمهم بذلك أبو حيان التوحيدي المثقف الطليعي العربي بامتياز.
سيظل الدكتور الطيب منارة شامخة للهدى والعرفان والحقيقة بعقل واع وضمير حي ونفس عزيزة زاهدة في رياش الدنيا وحطامها.
وسوم: العدد 825