تداعيات التصعيد بين أمريكا وإيران وأثرها على أمن المنطقة

مقدمة

ازدادت حدة التصعيد الأمريكي تجاه إيران بعد التلويح بخيار الضربة العسكرية إثر إسقاط الحرس الثوري الإيراني لطائرة تجسس أمريكية اخترقت المجال الجوي الإيراني حسب الرواية الإيرانية، ورغم اكتمال أسباب تبرير الضربة العسكرية تراجعت الولايات المتحدة الأمريكية فجأة عن خطوتها الجريئة، وبررت تراجعها بسبب عدم وجود أضرار بشرية، من جهة أخرى أكدت على توجيهها ضربة سيبرانية بدلاً من العسكرية من أجل إضعاف قدرات السلاح السيبراني الإيراني الذي قد يكون هو السبب في استدراج طائرة التجسس الأمريكية للمجال الجوي الإيراني لتبرير إسقاطها.

ينظر للتصعيد الإيراني سواء المباشر المتمثل في التهديد باستئناف النشاط النووي بعد انتهاء مهلة الستين يوماً، أو الغير مباشر من خلال التلويح بإغلاق مضيق هرمز وما صاحبه من عمليات تفجير مجهولة على أنه خطوة لتحريك المياه الراكدة في ملف الاتفاق النووي والعقوبات الأمريكية.

فمنذ عام من انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق ودخول العقوبات الاقتصادية الصارمة حيز التنفيذ لم تلتزم الدول الموقعة على الاتفاق ببنوده، ولم تتمكن إيران من تجاوز الضغوط الاقتصادية الشديدة المفروضة عليها من خلال تصفير نفطها، وحضر الحرس الثوري وفرض ضريبة 10% على قطاع التعدين والبتروكيميائيات.

وامتد تأثير العقوبات الأمريكية على الداخل الإيراني، إذ شكّلت العقوبات الاقتصادية عقبة جديدة أمام شرعية نظام طهران وسياسته العسكرية والأمنية في المنطقة، الأمر الذي أدى إلى ظهور احتجاجات شعبية عَوّل عليها بعض أعضاء إدارة ترامب في إحداث تغيير سياسي من الداخل قد يقوّض النظام. غير أن المعطيات تفيد بأن هذه الاحتجاجات وإن كانت تعكس حالة السخط الشعبي من تردي الأوضاع الاقتصادية والحريات الفردية لن تكون قادرة على تقويض النظام القوي لإيران.

 

التصعيد الأمريكي-الإيراني: مواجهة ساخنة

أمام فشل سيناريو التغيير من الداخل برز تياران في الإدارة الأمريكية؛

الأول: بقيادة ترامب والذي يميل إلى تبنّي استراتيجية دبلوماسية بدلاً من الحل العسكري. وهذه الاستراتيجية تتمثل في فرض العقوبات الاقتصادية بالتدريج من أجل الضغط على إيران لتعود إلى طاولة الحوار من أجل إعادة التفاوض في الاتفاق النووي. إذ يرى هذا التيار أن الاتفاق الذي تمّ توقيعه لم يشمل نقاط جوهرية تتعلق بالسلوك الإيراني في المنطقة. واقتصر تأثيره على الحدّ من النشاط النووي الإيراني دون منعه من الاستمرار بعد انتهاء مدة الاتفاق.

التيار الثاني: يتزعمه كلاً من وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون، ويتبنى هذا التيار الحل العسكري كخطوة أساسية للحد من التهديدات التي يمثلها السلوك الإيراني في المنطقة. وتتزايد المخاوف من هذا التيار بسبب تأثيره القوي على ترامب في ظل غياب شخصيات قوية بعدما تخلص ترامب من شخصيات قوية كانت في إدارته منهم؛ وزير الخارجية السابق المُقال "ريكس تليرسون"، ووزير الدفاع المستقيل "جيمس ماتيس"، ورئيس طاقم موظفي البيت الأبيض الجنرال "جون كيلي".

اشتدت وتيرة تأثير التيار الثاني في الإدارة الأمريكية بعد ارتفاع لهجة التهديد الأمريكي للجانب الإيراني بعد إسقاط طائرة التجسس الأمريكية، الأمر الذي اعتبره ترامب قرارا خاطئا ويستوجب الرد. وتمثل الردّ في الإعداد لضربة عسكرية محدودة سرعان ما تراجعت عنها الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي خلق حالة من الشك في الاستراتيجية الأمريكية وقدرتها على التأثير في السلوك الإيراني، فضلاً عن قدرتها على دفع إيران للرضوخ من خلال الضغوط الاقتصادية وحدها.

 

نقاط القوّة والضعف في الاستراتيجية الأمريكية تجاه الملف الإيراني

ما يميز الاستراتيجية الأمريكية الحالية تجاه إيران أنها من جهة تبدو فاعلة نظراً لقدرة الولايات المتحدة الأمريكية على حظر التعاملات المالية الواقعة ضمن نطاق العقوبات بسبب قوة العملة الأمريكية.  من جهة أخرى للولايات المتحدة الأمريكية تأثير كبير على سوق النِّفْط، لأنها المنتج الثاني عالَميًّا، ومرشَّحة خلال فترة زمنية قصيرة لتكون المنتج الأول بمعدَّل 12 مليون برميل يوميًّا، متخطية روسيا التي يبلغ معدَّل إنتاجها 11.6 مليون برميل. ومن هذا الجانب تسعى للضغط على إيران من خلال سياسة تصفير النفط الذي يمثِّل المصدر الرئيسي للدخل القومي في إيران، ومن خلال حلفاءها في المنطقة تسعى لأن تغطي أي عجز قد يحدث بسبب سياسة العقوبات.

النقطة الأبرز في الاستراتيجية الأمريكية تجاه إيران هي السقف العالي الذي اشترطته الولايات المتحدة على إيران من أجل إسقاط العقوبات، إذ استفادت إيران من الاتفاق النووي بشكل كبير لتعزيز نفوذها الإقليمي بعيدًا عمَّا كان منتظَرًا بعد توقيع الاتِّفاق. وعلى الرغم من سياسة النفس الطويل التي تتخذها إيران من أجل كسب مزيد من الوقت إلى حين ظهور إدارة أمريكية جديدة، لا يبدو أنه سيكون من السهل على هذه الإدارة أياً كان توجهها أن تتجاوز السقف العالي الذي وضعه ترامب.

غير أن هذه الاستراتيجية تحتوي على تحديات قد لا تؤثر على الملف النووي وحسب، بل على العلاقات الدولية بشكل عام، إذ إن استمرار الاتفاق النووي وفق صيغة 4+1 بعد انسحاب الولايات المتَّحدة منه، خلق فجوة كبيرة بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة وبين الدول الموقعة على الاتفاق من جهة أخرى. إذ إن الطبيعة الصراعية التي فرضها ترامب على الساحة الدولية أخرج الملف الإيراني من إطاره، فلم يعُد الخلاف بين القوي الدولية المعنيَّة بملفّ إيران ينحصر فيما تمثله إيران من فرصة للتعاون أتاحها الاتِّفاق النووي أو ما تمثله من تَحدٍّ بسبب سلوكها في المرحلة التي أعقبت الاتِّفاق، وإنما اعتبر البعض انسحاب ترامب من الاتِّفاق تقويضًا لدور الدبلوماسية الدولية متعددة الأطراف.

من جهة أخرى يأتي تذبذب الموقف الأمريكي في كثير من ملفات المنطقة من جهة وفي ردّ فعله المتواضع إزاء إسقاط الطائرة الأمريكية من قبل القوات الحرس الثوري ليقوّض الاستراتيجية الأمريكية تجاه إيران، فعلى الساحة السورية تعاني الاستراتيجية الأمريكيَّة من الغموض وعدم الاتساق مع ما تتطلبه استراتيجية الضغوط القصوى على إيران، فإيران تتحرك بأريحية في سوريا وتكرِّس وجودها عسكريًّا، بل ومدنيًّا، عبر عمليات تغيير ديموغرافي واسع. وفي اليمن لم تقدِّم الولايات المتَّحدة، على الرغم من انتشار قواتها وقواعدها في منطقة البحر الأحمر ومضيق باب المندب وبحر العرب وصولًا إلى الخليج العربي، الدعم الكافي للحلفاء المشاركين في التحالف العربي لاستعادة الشرعية، من خلال فرض حصار بحري لمنع تدفُّق السلاح إلى الحوثيين، ومِن ثَمَّ وقف الهجمات الصاروخية للحوثيين على دول الخليج، وتأمين الملاحة في البحر الأحمر وعبر مضيق باب المندب.

غياب الاستراتيجية الواضحة لتحقيق هدف مواجهة خطر إيران قد يسهم في بلورة (تحالف مصالح) تركيّ-إيرانيّ، وقد تنضمّ إليه دول كقطر وسوريا في المستقبل، فضلا عن حركات المقاومة والمليشيات في بعض البلدان، وبغطاء دولي من روسيا وربما الصين، وهذا التحالف يفتح أمام إيران نوافذ يمكن أن تتغلب من خلالها على الضغوط والعقوبات.

الاستراتيجية الإيرانية وأثرها على أمن المنطقة

على الرغم من أن الاتفاق النووي وصف بالاتفاق التاريخي كونه أخذ حيزاً طويلاً من الزمن، واشتركت فيه مجموعة 5+1 من أجل إضفاء المشروعية الدولية عليه، ونجح أخيراً في معالجة قضية الملف النووي الإيراني، لم يتمكن من الصمود كثيراً بسبب الثغرات الكثيرة فيه وعلى رأسها التهديد الأقليمي الذي يشكله النشاط العسكري والطائفي لإيران في كثير من الملفات الساخنة في المنطقة. وتعتبر إيران هي المستفيد الأبرز من هذا الاتفاق لعدة أسباب، أبرزها: أنه جاء بمثابة طوق النجاة ليمكنها من كسر عزلتها السياسية والاقتصادية، كما أنه مكّنها من التغلغل أكثر في مشاريعها الأمنية في المنطقة.

ومن هنا نجد أنه وعلى الرغم من انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي، ودخول عقوباتها الاقتصادية حيز التنفيذ في ظل عدم تجاوب بقية الأطراف الموقعة على الاتفاق رغم خطاباتها التطمينية، لا زالت إيران متمسكة بالاتفاق النووي رغم تهديدها بتعلق بعض بنوده كخطوة للضغط على الأطراف الأخرى الموقعة لتلزم ببنوده. والسبب في ذلك هو أن الصيغة الحالية للاتفاق النووي هي أكبر ضامن لقدرة إيران على المناورة بنفس أطول مع احتفاظها بقدرتها على مواصلة نشاطها النووي بما يتواكب مع مشاريعها الأمنية والعسكرية ومطامحها الإقليمية في المستقبل.

وتعتمد إيران حالياً سياسة النفس الطويل، في انتظار حدوث انفراجة من خلال نتائج الانتخابات الأمريكية في 2020، يساعدها على ذلك خبرة أربعين عاماً من تحمل الضغوط الاقتصادية من خلال المناورة والتحايل من أجل بيع صادراتها النفطية، فضلاً عن اعتمادها على ثقلها الجيوسياسي من خلال تواجدها في كثير من الملفات الأمنية، وقدرتها على استخدام وكلاءها المحليين والاقليميين للتحايل على العقوبات الأمريكية، إذ وكما يصرح مسؤولون فيها: بأن إيران تعرف دائماً كيف تصرف نفطها لتحافظ على حصتها في السوق العالمية.

خاتمة

من خلال تتبع المعطيات الأخيرة في قضية التصعيد بين أمريكا وإيران تتضح جملة من الملاحظات الجديرة بالاهتمام والتأمل، وعلى الرغم من تسارع وتيرة التصعيدات ودخولها حيز التهديدات العسكرية لم تتحقق لأن أمريكا بسياستها القديمة والحديثة تضطلع على الدور الإيراني لتبرر تواجدها من أجل حماية حلفائها الاستراتيجيين. ويتضح ذلك من خلال تصريح ترامب بأنه لا وجود لمصالح أمريكية مباشرة ترتبط بمضيق هرمز، وأن التواجد الأمريكي في المنطقة يأتي لخدمة أطراف دولية وحلفاء استراتيجيين ينبغي أن يدفعوا فاتورة الحماية الأمريكية.

وفي حين تؤكد الولايات المتحدة الأمريكية حماية حلفائها في المنطقة، من خلال سعيها لتقييد النشاط العسكري لإيران في كثير من الملفات الساخنة، لا يبدو أنها جادة في طرحها خصوصاً وأن الأطماع الاقتصادية هي التي تحرك سلوكها في المنطقة، ونتيجة لهذا التذبذب والعشوائية في تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع السلوك الإيراني في المنطقة يبدو أن الوضع الأمني في الشرق الأوسط سيتجه لحالة أكبر من الاستقطاب والتناحر السياسي بشكل لن يقتصر تأثيره على الجانب الاقتصادي والعسكري وحسب بل على الجانب الاجتماعي والأمني.

وسوم: العدد 831