العلاقة الزوجية عند المغاربة تحكمها العادة أكثر مما تحكمها العبادة
يختلف مفهوم العلاقة الزوجية في الدين عنه في العادة ، فهو في الدين ميثاق غليظ كما سمّاه الله عز وجل في محكم التنزيل ، وذلك لصلته بالله تعالى الذي باسمه تستحلّ الفروج ، ويكون سبحانه شهيدا على ذلك وضامنا ووكيلا ،كما أن الأمر يتعلق بشيء تعبّدنا به الله عز وجل من ضمن ما تعبّدنا به ، وهذا يعني أننا سنحاسب على ذلك بين يديه يوم العرض عليه . وفضلا عن ذلك تنشأ عن هذه العلاقة مباشرة بعد إبرامها إن صحّ التعبير علاقات كثيرة متشابكة ،فيصير لكل طرف فيها أقارب عن طريق المصاهرة مصداقا لقوله تعالى : (( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ))، وهذا يدل على أن المصاهرة الناتجة عن الميثاق الغليظ هي جعل إلهي كالنسب ، ولا يقدر على هذا الجعل سوى الخالق الجاعل جل شأنه . وبسبب علاقة المصاهرة يصير للزوجين أبوين وأميّن وإخوة وأخوات من غير أبويهما وإخوتهما وأخواتهما . ويصف الفرنسيون أبوي الزوجين وإخوتهما وأخواتهما بالجملاء ، أب وأخ جميلان وأم وأخوات جميلات أو جمائل للتمييز بينهم وبين الأبوين الحقيقيين والإخوة الأشقاء ، والأخوات الشقيقات ، وبمقتضى نعت الأوائل بالجمال يتعين نعت الأواخر بالقبح . فيكون لكل من الزوجين أبوان جميلين وآخران قبيحين ، وكذلك الحال بالنسبة لعلاقة الأخوة . وأظن أن الفرنسيين إنما فرضت عليهم المجاملة نعت أبوي الزوج أو الزوجة بالجمال ، ويحذو البعض عندنا حذوهم وقد اعتادوا دخول جحر الضب المنتن وراءهم .
وحين يولد للزوجين مولود تزداد العلاقات تفريعا وتشابكا، فيصر لهذا المولود جدّان وجدّتان وأعمام وعمات وأخوال وخالات ، وأبناء عمومة وأبناء خؤولة ، فضلا عن إخوته وأخواته ، وقد يصير له حفدة حين يكبر ويشيخ ، وتزداد العلاقات تشابكا حين يتزوج الحفدة سواء عن طريق علاقات النسب أو علاقة المصاهرة .
أما مفهوم العلاقة الزوجية في العادة، فهو على الطرف النقيض من الميثاق الغليظ نظرا لتغييب العادة لحضور الله عز وجل فيه ، ولتغييب شهادته ، ولأن الفروج فيه تستحل بالعادة لا بالعبادة. وخلافا للعلاقات المترتبة عن الزواج في الدين والتي يطبعها التعارف والتآلف تنشأ عن زواج العادة علاقات تنافر قد تتطور إلى عداوات مستحكمة .
والذي يعنينا في هذا المقال هو زواج العادة الغالب في حياة المغاربة ، ويعجبني نطق بعض كبار العوامّ عندنا كلمة " مغرب " بضم الميم والتي تعني الشيء الذي فيه غرابة . ومما في المغرب من غرائب تأسيس العلاقة الزوجية على أساس العادة لا على أساس العبادة . ويوجد الكثير من الأدلة الدامغة على ذلك ، نذكر منها على سبيل المثال النية ، وهي أو خطوة في بناء العلاقة الزوجية ، ففي زواج العبادة ينطلق الزوج من نية الظفر بالزوجة ذات الدين ، كما تنطلق الزوجة من نية الظفر بالزوج الذي يرضى دينه وخلقه ، أما في زواج العادة فتحل محل هذه النية نية مبيتة ينطلق فيها الزوج من الرغبة في جمال أو نسب أو مال الزوجة ، ولا يعنيه تدينها في شيء ، وتنطلق فيها الزوجة من الرغبة في مال الزوج ومنصبه وما يملك ،ولا يعنيها تدينه في شيء بل هو آخر من تسأل عنه ، وإن كان منحرفا سيء الخلق فاسد غطى عن انحرافه ماله ومنصبه وعقاره.
ونذكر بعد ذلك غلبة العادة في التحكم في المهور التي تغالي فيها الأسر خلافا للمهور في زواج العبادة والتي يجعل القليل منها الزوجات مباركات .
ولزواج العادة في وليمته طقوس في غاية التعقيد وغاية الإسراف والتبذير حيث تستمر الوليمة أياما معدودات ذهابا وإيابا بين بيتي أهل الزوجين حيث تشحن سيارات نقل البضائع أو العربات التي تجرها الدواب بالخراف والخضروات والفواكه والطحين والسكر والزيت وتتوجه إلى بيت أهل الزوجة على أنغام المزمار والدف وإيقاع الرقص الذي لا يخلو من إظهار واستباحة ما يستوجب الستر بالنسبة للإناث . وينتقل النزال من بين أهل الزوجة إلى بيت الزوج أو بيت أهله، فتنصب الخيام أو تكترى قاعات الحفلات بأثمنة خيالية أحيانا ، وتستدعى الأجواق والفرق الموسيقية المختلفة الشعبية والفلكلوية منها والعصرية هادئة وصاخبة حسب ما تقرره الأسر ، وهو قرار يحكمه وضعها الاجتماعي المحكوم بالعادة . ولا بد أن يتحمل الجيران صخب ليلة أو ليلتين أو ثلاث ليالي تفرض عليهم فرضا كقدر محتوم .
ونصيب العبادة من هذه الحفلات هو أن تخصص الليلة الأولى منها لتلاوة ما تيسر من كتاب الله عز وجل تيمنا به ليهدم الصخب فيما يلي من ليال الحفل ذلك اليمن. ولقد صارعندنا بعض المقرئين والمنشدين مثل المغنين لهم أجواق ومكبرات صوت ، ينشدون أكثر مما يتلون كتاب الله عز وجل .
وتفرض العادة في حفلات الزفاف من تسمى " نكافة " بنطق الكاف على طريقة إخواننا في مصر ، وهي امرأة تملك ملابس وحليّا ، تعيرها للعروس ،و لها محمل من خشب منقوش يحمل عليه الزوجان ويطاف بهما على أنغام الموسيقى الصاخبة والأهازيج والزغاريد والرقص بما فيه الماجن ، ويحمل ذلك المحمل شبان أربعة غلاظ شداد لا يعصون النكافة ما تأمرهم ويفعلون ما يؤمرون إلا أنهم أحيانا تزل بأحدهم قدمه ، فيدفع الزوجان الثمن باهظا ، ويرد سبب سقوطهما إلى عين حسود ، وهي عين لا تكاد تغارد حالا من أحوال المغاربة الذين تفرض عليهم العادة التطير والاحتراز منها احترازا يوشك أن يوقع في الشرك بالله ، وذلك بنسبة ما لغير الله تعالى من قدرة لعين الحسود ، وهو الذي لا يسود ويتمنى الجميع أن يصيب عينه عود يمنع قدرته من بلوغ المحسود وإصابته بسوء .
وفي زواج العادة عندنا لا تكون الوليمة بشاة كما يكون الشأن في زواج العبادة وكما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل تكون بشياه أو بعجل سمين كعجل الخليل عليه السلام الذي لم تمتدّ إليه أيدي ضيفه المكرمين ، فضلا عن أسراب من الدجاج كالطير الذي حشر لسليمان عليه السلام ، وأرغفة خبز تملأ بها السلال ، وتفوق ما كان فوق المائدة المنزلة من السماء على بني إسرائيل ، وأما الفواكه فمن كل صنف مما يشتهى ، وأما الشراب فيتراوح بين ما حل وما حرم وما اشتبه بين الحل والتحريم ، وعلمه عند من اعتصره وعند الله سبحانه .
وتبدو تزلزل موائد ولائم أعراس زواج العادة زلزالها وتحدث أخبارها بما جرى فوقها ، كما يبدو حفل الأعراس وكأنه حرب حقيقية بسبب دوي أصوات طلقات البنادق وانفجارات المفرقعات ورائحة البارود ، وصهيل العاديات الجاريات أحيانا .
وتسيطر على زاوج العادة عندنا طقوس لا يتسع المقام لذكرها علما بأنه يوجد العديد من الأفلام والفيديوهات التي صورتها وفيه غنى عن الحديث ، وفيها ما هو سحر مبين ولا يفلح ساحره حيث أتى .
ومعلوم أن الخلاف والشقاق والعداوة تنشأ بين أهل الزوجين منذ أول لحظة في زفاف زواج العادة ، ومن الخلاف ما يتدارك، فيختفي إلى حين ليظهر فيما بعد ، ومنه ما يطفو على السطح ويستفحل أمره ،وقد يتسبب في انفجار العواطف الغاضبة ،تليها انسحابات مبكرة تكون لها عواقب وخيمة على حياة الزوجين في مستقبل الأيام .
ويستهلك ما يسمى بشهر العسل ما تبقى من مال الزوج الذي استنزفته طقوس حفل الزفاف المكلفة ، فيشترط في هذا الشهر الإقامة في الفنادق الفاخرة ذات أحسن المسابح وأشهر المطاعم، ولا يبقى في هذا الشهر من طعم العسل إلا اسمه ، وقد أنهك جيب العريس ، وركبته ديون مذلة مخزية .
وتبدأ الحياة في زواج العادة بأول سوء تفاهم بين الزوجين مباشرة بعد وقت قصير، وغالبا ما يكون سببها اختلاف العادة بين الزوجين وبين أهليهما ، فيقع النزال بين عادة وأخرى ولسبب تافه يكون القطرة التي تفيض الكأس للكشف عن تراكمات مردها إلى العادة أيضا حيث يعتقد أهل الزوج أنه قد سرق منهم ، وصار ملكا وعبدا أو خادما للزوجة وأهلها ، ويعتبرون حسن معاملته لزوجته وأهلها خضوعا واستسلاما وانبطاحا وجبنا يلحق به وبهم العار ، و غالبا ما تتولى إشعال فتيل النزال أمه أو إحدى شقيقاته ، فتثور باسمه على الزوجة وأهلها فيجد الزوج نفسه أمام حرج كبير ،ويحتار في أمره ولا يدري إلى أية جهة يميل أو ينحاز، و يجد نفسه في قلب النزال وقد حمي وطيسه بسبب كلام جارح يأتي ردا على كلام مثله صادر عن أم أو أخت أو إحدى القريبات ، وتحكم الزوجين حينئذ عقيدة غزية التي إن غوت غويا ، وإن ترشد يرشدا .
وهذا الذي قيل عن الزوج يقع للزوجة أيضا حيث يرى أهلها أنها قد صارت مجرد جارية أو خادم في بيت الزوجية تخدم أم الزوج وإخوته وأخواته وأقاربه، فتثور ثائرة أمها، ويثير ذلك حفيظة أبيها وإخوتها وأخواتها، فيحتدم النزال بينهم وبين أهل الزوج انتصارا لكرامة بنتهم وكرامتهم المكلومة ، فيلوحون بالتهديد بالفراق والطلاق ، ويتوعدون بالويل والثبور وعواقب الأمور ، ويتحول بين الزوجين كلام شهر العسل المعسول إلى حنظل أو زقوم ، ويتضح أن ما أسس على العادة مصير الزوال والانهيار .
ومما يطبع الحياة الزوجية المحكومة بالعادة أن العلاقة فيها بين الزوجين علاقة مصلحة يحرص كل طرف فيها بأثرة على تحصيل أكبر قدر من الفائدة والنفع خلافا لما هي عليه العلاقة في الحياة الزوجية المحكومة بالعبادة والتي تطبعها مودة ورحمة تفرض على الزوجين تغليب الإيثار والإكرام والتضحية بكل ما تحب النفس . ونظرا لكون العلاقة في زواج العادة تغلب فيها المصلحة على المودة ، فإن ولاء الزوجين يظل إلى أهلهما ولو دامت علاقتهما عقودا ، فلا يشعر الواحد منهما بالراحة إلا بين أحضان أهله ،بينما يكون مقامه بين أهل الآخر ثقيلا على النفس ، ويشعر كل منهما وهو في بيته كأنه ليس بيته لأن البيت الحقيقي بالنسبة إليه هو بيت الأهل . ومع أن الله عز وجل بعث غرابا يعلمنا كيف ندفن موتانا ، وبعث لنا طيورا أخرى تعلمنا كيف نبني أعشاش الزوجية على غرار أعشاشها لنستقل فيها بأنفسنا ، فإننا بالزواج المحكوم بالعادة يود الزوجان لو بقي كل واحد منهما في عش أهله يقيم فيه أكبر مدة ممكنة ، ويخصص للمقام بعش الزوجية أقل مدة زمنية ممكنة ،و تشد الفرحة حين تشد الرحال إلى بيوت الأهل .
وخلاصة القول أن المعاملات بين الزوجين وأهلهما في العلاقة الزوجية المؤسسة على العادة تبدو متكلفة ومفتقرة إلى الصدق ، ومشوبة بالنفاق والمجاملة الكاذبة ، ولا يكاد طرف يغيب عن الآخر حتى تنال منه ومن أهله الغيبة ، ويصير موضوع تندر وسخرية لأن الميثاق المفروض فيه أن يكون غليظا بينهما صيّرته العادة هشا سريع الانفصام عند أول سوء تفاهم يحدث .
وسوم: العدد 836