من تبجيل وتقبيل إلى منافق وعميل
يقولون: أنّ الأدب أفضل من العلم، فلا ينفع العالم علم لا يصاحبه أدب وخلق، والأدب مطلوب في كل وقت، وعلى أي حال، وفي كل مكان. ومن الأدب الذي تعلمناه في ثقافتنا الشامية احترام العالم وكذلك الكبير وعونه، والرفق في التعامل معه، واختيار أجمل الكلمات وألينها وألطفها في حضرته، وعدم التكلم أو الأكل أو الشرب أو الجلوس قبله، وعدم مقاطعته في كلامه، والاستماع له بحرص وانتباه، والمسارعة في خدمته، وتخصيصه في المصافحة عن غيره بتقبيل يده ووضعها على الرأس، هذا ما كنت أتلقاه من أهلي وأدرسه في معهدي، ومع كل ذلك كنت أَعدّ إلى المليون قبل تقبيل يد أيّ شيخ أقابله، لا أعرف سبب ذلك الشعور، إلى أن أدركت ذلك بعد سنوات.
والطالب في الشام يتعلم احترام أرباب العلم وتقديرهم، فكان الطلاب يتأدبون مع المعلم ومنهم من يبالغ في ذلك، فكانوا يتدافعون لآخذ يد العلماء لتقّبيلها، حتى أن بعضهم كان يُقبّل يد كل من له لحية ويلبس جلابية ويضع طاقية بيضاء.
ومع بداية الثورة السورية ظهرت الحقائق وتبدلت الأفكار وتغيرت الوجوه، فرأينا من هؤلاء العلماء من وقف كالجبل الأشمّ في وجه الظالم، حتى سجنه المجرم وعذّبه لينزل على حكمه وفكره وطاعته فإن أبى قتله، ومنهم من آثر الصمت والتزم بيته، وقلبه يغلي من الجور الذي يُذيقه الحاكم المأجور للشعب الأعزل، ومنهم خلع لباس التقوى ليظهر عارياً تماماً بنفاقه للحاكم الظالم، ووقوفه معه ومساندته، بل ومحرضاً له على الفتك بأهله وشعبه أكثر مما أجرم وطغى وتجبر، وتلك الشرذمة من الشيوخ كان طلاب العلم قبل الثورة يتزاحمون للظفر بأيدهم، وارتشاف القبلات منها، والتمسح بجلابيبهم أخذاً للبركة والقربى.
عندما غادرت الشام وقدِمت تركيا، لم تختلف عليّ كثير من تلك الآداب، فأبناء تركيا يحترمون الكبار والشيوخ وينزلونهم منزل التكريم والتقدير والاهتمام، ومن ذلك تقبيل اليد ووضعها على الرأس، وقد أحببت هذه العادة الجميلة وشجعت عليها أولادي، ليعرفوا حقّ الكبير والعالم في الاحترام، وأتردد في كثير من الأحيان في هذا التشجيع، لاعتبارات مستقبلية.
وفي زيارة لبعض الشيوخ الأتراك مع بعض الأخوة والأصدقاء ممن أعمل معهم، كان سلامي لشيوخهم بمنتهى الأدب، ولكن دون تقبيل اليد كما يفعلون، فكان بعض الأخوة يُحرضني على متابعتهم وتقليدهم، فكنت عنيداً في امتناعي، وفي كل مرة يكرر ذلك لي، وأنا أرفض أن أتابعهم في طريقة سلامهم تلك.
ولم يكن رفضي لمتابعة الأخوة الأتراك في أسلوب سلامهم للعلماء وتقبيل الأيد انتقاصاً من تلك الشيوخ والعلماء، ولكن لحرقة في قلبي مازالت تكوي صدري من تلك الأيام الخالية إلى يومنا هذا، حينما كنا نُقّبل أيدي هؤلاء الذين شاركوا في سفك دماء أهل سورية، لا في ثورتنا المباركة 2011 فحسب، بل منذ خمسين سنة مضت، من خلال عملهم مع أفرع المخابرات السورية في غفلة الكثير من أبناء شعبنا.
هؤلاء هم الشيوخ الذين سلكوا طريق النفاق لمجرم الشام بشار ولوالده من قبله، الذين في كل يوم يُوقدون تنّوره فيزيدون حطبه ويسعرون ناره، التي يُصلي به أهلنا من شيوخ ونساء وأطفال ومدنين، ويُلقمون مدافعه التي تدكّ مساجدنا، ويَعمرون براميله التي تُدمّر مُدننا وقُرانا وأسواقنا وأفراننا ومشافينا، ويفتون بسجن الأحرار وتعذيبهم، ومصادرة الأموال والبيوت ونهبها، وسلب أقوات الناس، ويبيحون للشبيحة فعل كل شناعة تندى لها الجبين على الحواجز وفي السجون، ويدعمون احتلال بلادنا من قبل الروس الذين سرقوا خيرات البلاد، والإيرانيين المجوس الذين ينشرون التشيع في سورية تحت شعار الأخوّة في الدين، فتلك هي الشيوخ التي خُدعنا بها سنوات عدة، فكنّا نتقرب إلى ربنا بلثم أيديهم الآثمة التي تقطر من دماء الأبرياء، نستغفر الله ونتوب إليه مما فعله أدبنا المفرط وغفلتنا مع مجرمين منافقين قتلة.
ورحم الله ابن الوردي القائل في هؤلاء المنافقين:
أنــــا لا أخـتـــار تـــــقــــبـــــيــــل يـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد قطعها أجمل من تلك القُبل
إن جزتني عن مديحي صرتُ في رِقَّــهـــــــا أوْلا فــــيـــــكـــفـــيــني الخجل
فلذلك أقول لأخوتي في تركيا هذا هو سِرّ عدم متابعتي لكم في تمجيد علمائكم على طريقتكم، مع أننّي أظن بهم الظن الحسن، ولكن الأسى لا يُنس، فذاكرتنا لا تمحُ محفوظاتنا في ماضينا وحاضرنا، ففي كل يوم نرى تلك العصابة من الممثلين المتمشيخين وهم يمدحون المجرم السفاح على منابرهم، لا خوفاً منه بل اعتقاداً جازماً منهم على موافقته في كل ما يفعله من إجرام وخيانة.
فشيوخ السلطان المنافقون كانوا من زمن فرعون والنمرود وغيرهما وما زالوا، فلكل طاغية حمّالة حطب وهامان يزيدون في دركات مولاهم ليُحشروا معه ويأنسُ بهم، اللهم لا تُهنّا ولا تفتنا.
وسوم: العدد 838