عودة فلسطينية إلى مسار منحدر
"لن نقبل أن نستلم الأموال منقوصة فلسًا واحدًا، آغورة واحدة، سنتيمًا واحدًا. لن نقبل إطلاقًا؛ إما أن تأتي كل أموالنا لنا، أو لن نقبل إطلاقًا". هذا ما قاله الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني، في مايو/ أيار الماضي، وكرّره في كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، مؤكدًا "أننا نجوع ولا نستسلم"... نتذكّر هذا، ونحن نقرأ أخبارًا مؤكدة، مفادها بأنّ حسين الشيخ، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ووزير الشؤون المدنية ومنسقها في السلطة الفلسطينية، وهي الدائرة المعنية بالاتصال بالدوائر الإسرائيلية، إضافة إلى اتصالات الأجهزة الأمنية المباشرة، قد عقد اجتماعًا، يوم الخميس 3 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، مع وزير المالية الإسرائيلي، موشيه كحلون، وتم فيه الاتفاق على إنهاء ما عُرفت بأزمة أموال المقاصّة بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، وعلى تحويل مبلغ 1.8 مليار شيكل (518 مليون دولار) إلى خزينة السلطة الفلسطينية. والإعلان عن مسعىً إسرائيلي لتقديم مساعدات اقتصادية إضافية، مع استمرارها في خصم الأموال التي تُصرف على أُسر الشهداء والجرحى. والأهم، التأكيد أنّ اللجان المشتركة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية ستستأنف عملها، اعتبارًا من يوم أمس الأحد، 6 أكتوبر/ تشرين الأول، لبحث القضايا كافة.
إذًا، ثمّة مسار جديد قرّرته السلطة الفلسطينية، تراجعت فيه عن جميع ما كانت قد قالته أو تعهدت به، فقد عادت إلى قبول أموال المقاصّة المقتطعة منها مخصصات أُسر الأسرى والشهداء، وأعادت تفعيل العمل بكل اللجان المشتركة مع الكيان الصهيوني، متراجعة عمّا أعلنه الرئيس محمود عباس، في 25 يوليو/ تموز الماضي، بوقف العمل بالاتفاقات المعقودة مع الكيان الصهيوني كافة، ومتنصلةً من قرار المجلس المركزي في دورته المنعقدة في شهر مارس/ آذار 2015، سحب الاعتراف بدولة إسرائيل، ووقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، ومتراجعة عن نحو 58 قرارًا اتخذها المجلسان الوطني والمركزي الفلسطينيان، والمجلس
الثوري لحركة فتح، والتي قضت بتشكيل عشرات اللجان التي لم ترَ النور، أو بقيت توصياتها حبيسة الأدراج، والمكلّفة بحث السبل الكفيلة بقطع جميع العلاقات مع الكيان الصهيوني.
قبل إجراء الانتخابات الإسرائيلية الأولى في إبريل/ نيسان الماضي، قرّرت حكومة الاحتلال، ولأغراض انتخابية، اقتطاع قيمة ما تنفقه السلطة الفلسطينية على عائلات الأسرى والشهداء، وتُقدّر بنحو عشرة ملايين دولار تقريبًا. ردّت السلطة، على لسان الرئيس عباس، برفض تسلّم أموال المقاصّة الضريبية التي تجبيها إسرائيل عن واردات المناطق الفلسطينية وصادراتها، وتقتطع منها فواتير الكهرباء والعلاج والمحروقات، وأتعاب الشركة الإسرائيلية المكلّفة بتدقيق هذه الأرقام. كان واضحًا لدى الطرفين أنه إجراء دعائي، سيستمر مدة أقصاها ثلاثة أشهر، ستفيد رئيس الحكومة وحزب الليكود، بنيامين نتنياهو، في جذب أصوات اليمين، وترفع من منسوب شعبية السلطة الفلسطينية التي سعت، بعد رفضها "صفقة القرن"، وبعد قرارات هيئاتها المختلفة بوقف الاتفاقات مع الكيان الصهيوني، إلى الظهور بمظهر من سلك مسارًا مختلفًا مناهضًا للاحتلال، وعازمًا على التخلص من قيوده.
لم تتألف حكومة في إسرائيل، فأُعيدت الانتخابات في 17 سبتمبر/ أيلول الماضي، وليس واضحًا ماهية التركيبة الحكومية المقبلة فيها. كما فشلت السلطة الفلسطينية في تأمين بدائل لأموال المقاصّة التي تشكّل ما نسبته 50% من إيراداتها، وعجزت عن تأمين شبكة أمان عربية بديلة، باستثناء المنحة القطرية، واستنزفت طاقة البنوك المحلية على الإقراض، على الرغم من لجوئها إلى خفض الرواتب بنسبة 50%. وأخيرًا، رفض المانحون الدوليون زيادة مساعداتهم، على اعتبار أنّ للسلطة أموالًا عند إسرائيل ترفض أن تتسلّمها. وكانت الحكومة الإسرائيلية تدرك عدم قدرة السلطة على البقاء من دون أموال المقاصّة، وأنّ جميع الشعارات التي رُفعت عن استقلال الاقتصاد الفلسطيني لا يمكن تحقيقها في ظل سيطرة الاحتلال المطلقة على كل شيء، بناءً على اتفاق أوسلو وملاحقه الاقتصادية، فشكّل ذلك هاجسًا أمنيًا لدى العدو والسلطة الفلسطينية أمام احتمالات انهيارها، ووقع الطرفان ضحية قراراتِهما غير المدروسة.
جرت، في أغسطس/ آب الماضي، محاولة أولى لجسّ نبض الشارعين، الفلسطيني والإسرائيلي، حين اتفق الجانبان على أن تحصّل السلطة الفلسطينية ضريبة المحروقات، المعروفة بالبلو، مباشرة. وحوّلت إسرائيل مستحقات هذه الضريبة المتأخرة عن الأشهر، وهي 34.2% من إجمالي أموال المقاصّة. مرّت العملية بهدوء، إذ بقيت إسرائيل على موقفها من اقتطاع مخصصات الأسرى والشهداء، وبقيت السلطة على موقفها، رفض تسلّم أموال المقاصّة، ولكن ميزانيتها انتعشت، وأعادت صرف جزء من الرواتب المتأخرة للموظفين. وكان هذا
بالون اختبار للخطوة التالية للخروج نهائيًا من المأزق الذي وقع فيه الطرفان.
ويعني الاتفاق الجديد الذي بوشر تطبيقه أنّ السلطة الفلسطينية وافقت على تسلّم أموال المقاصّة، بعد خصم مخصصات عائلات الأسرى والشهداء منها التي أعلنت السلطة، على لسان الشيخ، أنها ستستمر في المطالبة بها مستقبلًا. في حين أعلن الجانب الإسرائيلي أنه سيبحث في تقديم مساعداتٍ إضافية للسلطة الفلسطينية، وكان هذا هو المخرج الملائم للطرفين، إلا أنّ الإنجاز الأكبر الذي حققه الكيان الصهيوني كان في إعادة تفعيل اللجان المشتركة التي باشرت عملها، وهذا يعني أنّ القرارات السابقة بوقف الاتفاقات مع العدو أُبقيت في سلة المهملات الفلسطينية التي أُلقيت فيها ساعة إصدارها.
ويبدو أنّ السلطة الفلسطينية قد حسمت مسارها في هذا الاتفاق، وتراهن على ما سيُحدثه تدفق الأموال واستئناف صرف الرواتب، في ظل الظروف المعيشية الصعبة في المناطق المحتلة، من عودة بعض التأييد لسياساتها، على الرغم من ارتباكها السياسي، وتنصّلها من وعودها. ولعل لهذا القرار صلة بالانتخابات التشريعية التي تعِد السلطة بتنظيمها، حتى ولو في الضفة الغربية وحدها، في محاولةٍ لاستعادة شرعية تهاوت، وهي انتخاباتٌ لا يمكن أن تتم في ظل معارضة السلطات الإسرائيلية، ومن دون موافقتها والتنسيق معها.
من المشكوك فيه، وبعد أن تنجلي سحابة الرواتب، أن يستمر الناس في شراء الوهم الذي دأب المسؤولون في السلطة الفلسطينية على بيعهم إياه في الأعوام الماضية، وينبغي التأكيد أنّ الخلاص من الاحتلال لن يتم عبر اتخاذ قراراتٍ يعلم متّخذوها أنهم غير قادرين على تنفيذها، وأنها معدّة للاستهلاك الشعبي المؤقت فحسب. وأنّ التحرر من الاحتلال لن يتم ضمن سقفه، وضمن إطار الاتفاقات الموقّعة معه، وفي ظل تغوّل أجهزة التنسيق الأمني، فلا يمكن مثلًا
الاستمرار في الادعاء أنّ حكومة محمد اشتية ستتمكّن من بناء اقتصاد فلسطيني مستقل، وهي مكبّلة باتفاق باريس، ولا تملك أي سيادةٍ على معابر أراضي السلطة وحدودها، وحتى طرقها الداخلية ومدنها وقراها، فمقاطعة العدو مرهونة بالانفكاك من جميع الاتفاقات معه، وليس بقراراتٍ جزئيةٍ تتعلق بهذه السلعة أو تلك، ولا تمتلك القدرة حتى على مراقبة تدفقها إلى الأسواق.
ما حدث هو اختيار السلطة الفلسطينية سلوك مسار منحدرٍ، يزداد فيه ارتباطها بالعدو في مناحي الحياة كلها، وينهي ما يُقال عن إمكانية انحيازها إلى المقاومة، حتى بأشكالها السلمية، أو إتمامها المصالحة مع حركة حماس التي لن تكون إلا على قاعدة دحر الاحتلال. أما العدو الصهيوني، فما يقوم به ليس سوى خطوة على طريق تفكيك السلطة ذاتها، بعد أن يستكمل قضمه المناطق، ويُحْكم الطوق على كانتونات فلسطينية متفرّقة، وينزع عن السلطة الفلسطينية ما تبقى من فُتات السيادة، ويلحقها بدائرة الحاكم العسكري، كسقف لها ومرجع في إدارة شؤونها، محتفظًا منها بأجهزتها الأمنية.
المقاومة كلٌ متكاملٌ، ودحر الاحتلال لا يتم بالتعاون معه، والادّعاء بأنّ ثمّة من يعمل على التصدّي له، أو مقاومة "صفقة القرن" بشعاراتٍ تُرفع بين حين وآخر، وذلك كله أصبح ادعاءً ممجوجًا لن تجد من يشتريه.
وسوم: العدد 845