مرحلة جديدة
اليوم يعيش الناس مرحلة جديدة تُرهص بتحولات جذريّة على كافة المستويات، فاليوم يختلف عن الأمس، ولا تزال الأحداث تكشِف وتُبلْوِر، وبات أكثر الناس في حالة من الاندهاش لما تَكَشّف من واقع كنا عنه في عَماء.
عام 1948م كان نقطة تحوّل كبيرة غيّرت فيما بعد كثيراً، وعام 1967م كانت نقطة تحوّل أخرى كان لها ما بعدها... وكان هناك غيرها من المنعطفات التي سرّعت في التغيير . والذي يهمنا هنا التركيز على أثر ذلك في وعي الجماهير، واكتشاف الأمّة لذاتها الحضاريّة، واكتشافها لمساحات كانت خافية حتى أنارها نور الوعي.
عوامل كثير ومتعددة أدّت إلى ثورات الشعوب، والتي لا تزال في بداياتها. وهذه البدايات كشفت للأمة مساحات كانت غير مرئيّة ولكنها كانت كالأمراض الباطنيّة التي تفتك بالجسد الذي ظاهره الصّحة. ولا شك أن اكتشاف هذه الأمراض هو بداية الأمل في علاجها:
أولاً: الحكومات والزعماء والقيادات كانت تتسترّ بكل ما يمكن أن يُخفي عوراتها، أمّا اليوم فقد باتت عارية في وضح النهار.
ثانياً: أحزاب وجماعات ترفع شعارات الحريّة والمساواة والإخاء والوحدة ومقاومة الاستعمار، وووو.... سقطت سقوطاً مدوّياً ولا مجال لعودتها لتشغل أية مساحة في ضمير الأمة، بعد أن كان لها في يوم من الأيام كل المساحات.
ثالثاً: مدارس وجماعات وأعلام في الساحة الإسلاميّة سقطت هي وفتاواها التي تخالف بدهيّات الإسلام، وتغطي عورات الطغاة. وعندما نقول سقطت لا نعني أنها لم تعد موجودة في الواقع، ولكن نقصد أن نقول إنّ زحفها السابق واحتلالها مساحات من ضمير الأمّة قد توقّف الآن، وسيبدأ بعد ذلك العدّ التنازلي لتحرير ضمير الأمّة من قيود فتاواهم ومواقفهم المضللة.
رابعاً: السلطة الرابعة (الإعلام) بوسائله المتعددة والمتنوّعة بات تحت المراقبة الجماهيريّة، وبدأ الناس يراجعون شريط الذاكرة، وبدأوا يكتشفون الدور الذي لعبه الإعلام والفن في تضليل الأمّة ومحاربة قيمها وتزييف تاريخها... فإذا بكثير من الوجوه يزال عنها الغطاء، فإذا هي في غاية القبح والصفاقة والإجرام. لا بأس إنها الصدمة التي لابدّ منها لإحداث التغيير وتصعيد الوعي.
خامساً: أتباع الأحزاب والجماعات والأفكار.. الذين كانت أصواتهم عالية وهم يتشدقون بالمبادئ والأخلاق والحريات وحقوق الإنسان وووو وجدوا أنفسهم في مفترق طرق، فلا خيار لهم إلا أن يعلنوا عن موقف، فهذا زمن الفرز والتمايز. أما الذين أعلنوها واضحة أنّهم ضد الشعوب ومع الطغاة، وأنهم مع مصالحهم الفرديّة، وإن تناقضت مع مصالح أوطانهم، وإن تناقضت مع قيمهم المعلنة سابقاً، وإن تناقضت مع شِعاراتهم التي رفعوها؛ لأنّ كل ذلك كان في الحقيقة نفاق تقتضيه المصلحة في مرحلة، والآن لا مجال ولا خيار إلا أن تُعلِن شهواتُهم وأنانيتُهم عن أنها الرب المعبود، وأنّ شعار لا إله إلا الله رفعه أيضاً سلفهم عبد الله بن سلول، نفاقاً وتستراً.
وأما أهل الصدق من الاتباع فهم في حيرة واندهاش، وباتوا يدركون أنهم قد خُدعوا لزمن طويل.... يا لنا من سُذّج، فقد خُدعنا طويلاً، على الرغم من أنّ حصاد هؤلاء كان يكفي لنعلم أن زرعهم خبيث.
سادساً: أما من يعيشون الحيرة ويقولون إنهم لا يدرون أين الحق، فهؤلاء أشكال وألوان؛ فبعضهم يقول ذلك مراعاة للرأي العام بين الشعوب حتى لا ينكشف أمرهم وتناقضهم. وبعضهم يهدف أن يوحي لك أنّ الأمر ملتبس تغطيَةً لعورته لوقوفه ضدّ الشعوب المقهورة واصطفافه مع اللصوص المجرمين. وبعضهم من أهل الدنيا يخشى أن تتأثر مصالحه عندما تملك الشعوب إرادتها وينتشر الحق والعدل بين الناس. وبعضهم صريع شهواته، بحيث يشعر بالغربة في أجواء الطهارة. أما صريع الإعلام فنادر الوجود، لأنّ الأمر أوضح من أن يلتبس على أحد، إلا أن يكون ضعيف العقل مسلوب الفهم، ولا يميّز بين ليل أو نهار.
سابعاً: أمّا السمّاعون للكذب، فيجدون راحتهم في مثل هذه الأجواء، لأنّ هيأتهم النفسيّة صنعها ماضيهم المنحرف عن الحق. وهؤلاء لا يمكنك إقناعهم مهما حشدت من الأدلة والبراهين، لأنهم لا يستطيعون سمعاً، لأنّ الله لا يهدي القوم الظالمين، ولا يهدي من هو مسرفٌ كذّاب.
ثامناً: أما الذين مَرَدوا على النفاق فهم أخطر المجرمين في الأرض، لأنّهم تمرّدوا على الإيمان الحق، وانسلخوا من القيم الربانيّة، وآن للناس أن يعلموا أنّ أخطر ملاحدة الأرض نبتوا في بلاد المسلمين، وانسلخوا من حضارتهم الحقّة، ويشعرون بالغربة في أوطانهم، وهم يبحثون عن الانسجام بعيداً عن أمّتهم، فيسهل عليهم أن يبيعوا الأهل والوطن والدين والقيم.
فلا غرابة إذن، وهي الحقيقة التي لا بدّ أن تواجهها الأمة حتى تتمكن من إصلاح ما أفسده هؤلاء على مدى عقودٍ، بل قرون.
وسوم: العدد 845