ضرب الخناجر ولا حكم النذل بيّ
الفلسطينيون يولدون أحرارا، ولن يكونوا غير ذلك. فلم يتعودوا يوما الخنوع والاستسلام، ولم يكونوا عبيدا لأي كائن من كان، ولن يكونوا الآن عبيدا لنتنياهو، ولا ترامب ولا لمليارات الدولارات الخليجية التي يلوحون بها.
مرّ على «التغريبة الفلسطينية» أكثر من قرن من الزمن، «شكرا» لبريطانيا العظمى صاحبة وعد بلفور (1917) والانتداب على فلسطين، الذي جاء من بعده ليترجمه الوعد المشؤوم على الأرض، وإقامة الكيان المغتصب، بالتنسيق مع المتآمرين العرب، ولم تُدفّع بريطانيا ثمن جريمتها حتى اللحظة.
مرّ أكثر من قرن على مأساتهم، ولم يستسلم الفلسطينيون ولم ينكسروا، ولم تنحنِ هاماتهم أمام جبروت الإمبراطورية البريطانية في عز أيامها، ولن يهنوا ولن يضعفوا أمام عنجهيات الإمبراطورية الصهيو/أمريكية الغبية، ومؤامرات شيوخ العرب.
ما أعلنه ترامب الذي كان يتحرك كطاووس منتوف الريش، في الاحتفالية الصغيرة، التي أقيمت في البيت الأبيض للإعلان عن صفقته مساء28 يناير 2020، بوجود عربي أيضا، لم يكن خطة للسلام، بل إنها خطة لاستسلام فلسطيني كامل، إنها ليست خطة للسلام، بل هي قتل للشرعية الدولية وتجاوز لقراراتها، إنها ليست خطة للسلام، بل خطة لتدمير المشروع الوطني الفلسطيني، وهذا استنتاج خرجت به أيضا صحيفة «اللوموند» الفرنسية، إنها ليست خطة للسلام، بل محاولة لمحو الهوية الوطنية الفلسطينية، إنها ليست خطة للسلام، إنما مؤامرة لحشر الفلسطينيين في معازل يحيط بها ويحاصرها جيش الاحتلال من كل صوب، كمحميات الهنود الحمر في الولايات المتحدة وكندا، إنها ليست خطة للسلام، بل خطة لتكريس الاحتلال وتدمير الحلم الفلسطيني في الحرية والاستقلال، وإقامة الدولة المستقلة، وعاصمتها القدس، التي أعطى ترامب لنفسه الحق، كما فعلها من قبله بلفور بوعده المشؤوم، في منحها عاصمة غير مقسمة لإسرائيل، حلم فشلت كل المؤامرات، استعمارية كانت أم عربية، وعلى مدى قرن في مسحه وبقي حيا يرزق. إنها ليست خطة للسلام، بل باختصار مؤامرة لزعزعة صمود الفلسطيني المتجذر في أرضه، كما أشجار الزيتون، إنها ليست خطة سلام فهي لا ترتكز على أي أسس حتى الشرعية الدولية، أسس يمكن البناء والارتكاز عليها، كما تقترح وزارة الخارجية المصرية من هذه المؤامرة، وهي أصلا غير قابلة للتفاوض أو التغيير، كما ذكر ترامب فإما أن تقبلها بعيوبها الجمة أو ترفضها.
هذا ليس رأيي فحسب، بل حتى وسائل الإعلام الأمريكية، شككت في إمكانية مساهمة هذه الصفقة، في إحلال السلام في الشرق الأوسط. وحسب صحيفة «واشنطن بوست»، فإن الخطة تلبي كافة متطلبات إسرائيل، وأن ترامب أعلن عنها، رغم استمرار التشكيك في مدى إمكانيتها جلب السلام للشرق الأوسط، ملمحة في هذا السياق إلى إجراءات عزله من منصبه، التي تتزامن مع الأيام العصيبة التي يمر بها نتنياهو، جراء قضايا الفساد التي تلاحقه. وعنونت صحيفة «نيويورك تايمز» خبر الصفقة بـ»ترامب كشف عن خطته المنحازة لإسرائيل بشدة». وأكدت الصحيفة أن خطة ترامب لن تسمح بإقامة دولة فلسطينية مؤهلة على المدى البعيد. وحتى موضوع الرخاء الاقتصادي الموعود (50 مليار دولار وهو ثمن بخس) يبقى وعدا في الهواء وحبرا على ورق، وليس هناك أي ضمانة لاستثمارها في المحميات الفلسطينية، وكما يقول الأثر «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين»، فقد جربنا تلك الوعود من قبل في التبرعات التي وعد بها قطاع غزة بعد العدوان عليه في صيف 2014، وبعد مرور نحو6 سنوات، لم تف الدول المانحة بما وعدت في مؤتمر القاهرة في أكتوبر 2014، ولا تزال هناك بيوت مهدمة ينتظر أصحابها ترميمها، أو إعادة بنائها، ومنهم من أعاد بناء منزله بأمواله وينتظر التعويض.
والآن وبعد أن «ذاب الثلج وبان المرج»، ولم يعد هناك ما هو خفي من هذه الصفقة، التي أشرف على وضع بنودها وصياغتها الثالوث الصهيوني في البيت الأبيض، جارد كوشنر وجيسون غرينبلات وديفيد فريدمان، بنود كنا نعرفها من التسريبات المتواصلة على مدى نحو عامين، لم يعد أمام القيادة الفلسطينية أكثر من خيار، ولم يعد الأمر يحتمل المماطلة والتسويف والانتظار، فعليها هذه المرة أن تصدق الوعد وتبدأ في تنفيذ تهديداتها، وقرارات الشرعية الفلسطينية، ممثلة بقرارات المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، وكما ذكرنا فالخيارات ليست كثيرة، وهي الآن أمام الفرصة الأخيرة والسبب سياساتها السابقة، وعدم احترامها لقرارات مؤسساتها الشرعية، التي تعاملت معها كأدوات تلوح بها للتخويف فحسب، لم يبق أمامها سوى خيار المواجهة المحسوبة والمدروسة وبأساليب إبداعية وخلاقة وغير نمطية، خيار نجند له كل طاقاتنا.خيار يبدأ بإعلان الدولة فتصبح دولة تحت الاحتلال، وبذلك يسقط اتفاق أوسلو المشؤوم الذي لا يلتزم الطرف الآخر بأي من بنوده وتتحرر من جميع تبعاته، لاسيما التنسيق الأمني والارتباط الاقتصادي وغيره الكثير. خيار يسقط عن كاهل القيادة الفلسطينية الأعباء المالية والإدارية والأمنية، والأهم سحب الاعتراف بدولة الاحتلال التي جاءت نتيجة الاتفاق المشؤوم.
لقد نعم الاحتلال منذ اتفاق أوسلو وقيام السلطة في عام 1994 وحتى يومنا هذا، باحتلال مجاني، تتحمل تكاليفه الدول المانحة، ويتحمل أعباءه الشعب الفلسطيني من قتل وتدمير ومصادرة أراض، وهدم منازل والاستيلاء عليه، لاسيما في القدس المحتلة ضمن الجهود المتسارعة لتهويد المدينة، ومناطق (ج) التي أعلنوا عن نواياهم لضمها.
لقد هب الشعب الفلسطيني في جميع مناطق تواجده في الشتات والمخيمات وفلسطين من الناصرة في مناطق 48 ، مرورا بالضفة الغربية فقطاع غزة، ووقف وقفة رجل واحد رافضا المؤامرة الأكبر منذ وعد بلفور. ما تشهده الأراضي الفلسطينية يجب ألا يبقى في سياق ردات الفعل الغاضبة، التي سرعان ما تتلاشي، لأنهم يعتمدون، وكما ذكرنا مرات ومرات، على ردود أفعالنا الآنية، يجب ألا ينحصر رد الفعل الفلسطيني بيوم أو يومي غضب، فالغضب يجب أن يتواصل، ويتدحرج حتى يوصلنا إلى الانتفاضة، بل الثورة الشعبية الحقيقية التي لا تتوقف حتى تحقيق أهدافها المرجوة، زوال الاحتلال وتحقيق الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ذات السيادة الكاملة وعاصمتها القدس.
فما تقدم يحتاج إلى أرضية فلسطينية صلبة وموحدة تعززها المصالحة، وإنهاء الانقسام. وإذا كان هناك أي إيجابية تذكر لإعلان صفقة القرن المشؤومة، فهو تضييق شقة الخلاف الفلسطيني الفلسطيني. وقد تتم هذه المصالحة الأسبوع المقبل في قطاع غزة. ولكنها لن تكون العصا السحرية التي ستعيد الأمور إلى نصابها وتحقق المعجزات، هذا لن يحصل، وهذه ليست محاولة لإحباط الهمم والعزائم، لكنها ستكون البداية التي يمكن البناء عليها لتصور نضالي جديد خارج الصندوق وبعيد عن النمطية.
وعد أبو مازن أن يعيد صفعة القرن هذه، صفعات إلى أصحابها، وها هو الشعب الفلسطيني قد شمّر عن سواعده في انتظار الصفعة الأولى، ليواصل الصفعات. والضربات الحقيقية التي تزعزع جذور الاحتلال واقتلاعه من أرضنا.
وأخيرا من كان ينتظر أو يأمل في أن تكون صفقة القرن منصفة، ولو بالحدود الدنيا فقد جاءت لتخيب الظن، ومن كان يعتقد أنها ستكون أكثر من الحل الاقتصادي الذي روج له نتنياهو على مدى السنوات الماضية، فقد خاب ظنه أيضا، فهي حل اقتصادي بامتياز.
وأختتم بالأغنية التراثية الفلسطينية وهي الأغنية التي رددتها المرأة الفلسطينية حتى قبل الانتداب البريطاني، ولا تزال ترددها تعبيرا عن رفض الذل والمهانة مهما غلا الثمن:
«يما مويل الهوى يما مويلية ، يما مويل الهوى يما مويلية
ضرب الخناجر ولا حكم النذل لي، ضرب الخناجر ولا حكم النتن (نتنياهو) لي.
وسوم: العدد 862