صفقة ترامب وسطر محمود درويش
تبارى بعض العرب في إغداق الصفات القدحية على تسمية “صفقة القرن”، أو خطة “السلام من أجل الازدهار” حسب العنوان الفرعي الذي اختاره لها البيت الأبيض؛ فراجت نعوت مثل “خدعة” و”كذبة” و”سرقة”، تنتهج النحت الصرفي للمفردة الأمّ، في العربية، أو تتزيد قليلاً فتضيف السجع بين “صفقة” و”صفعة” مثلاً!
ليس أقلّ طرافة أنّ صائب عريقات، أمين سرّ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وكبير المفاوضين الفلسطينيين مع الجانب الإسرائيلي (أيام زمان، بالطبع)؛ كشف النقاب عن “سرّ”، كما أسماه بنفسه، مفاده أنّ هذه الخطة/ الصفقة عرضها عليه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، بالحرف كما قال، سنة 2011، وقوبلت بالرفض. لم يكمل عريقات الحكاية، فيفيد الجمهور علماً بالسبب الذي جعله يكتم ذلك “السرّ” طوال تسع سنوات، لأنه أغلب الظنّ قدّر أنّ قلّة قليلة باتت، اليوم تحديداً، معنية بمعرفة ملابسات هذا الطراز من الأسرار المفضوحة المعلنة!
ولا يخلو من طرافة، أيضاً، ذلك التيار الذي نبش في الذاكرة قليلاً، فعاد إلى سنة 1995 حين راجت حكاية أخرى وخطة سابقة، اصطُلح على تسميتها “اتفاقية بيلين ــ أبو مازن”؛ نسبة إلى الرئيس الفلسطيني الحالي، الذي كان يومذاك على رأس دائرة التفاوض في المنظمة؛ ويوسي بيلين، وكان وزيراً للعمل في حكومة إسحق رابين. ورغم أنّ تلك التفاهمات بقيت مسوّدة، فلم يصادق عليها رابين، ورفضها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات؛ فإنّ من المدهش، في المقابل، كثرة العناصر المتشابهة بين تلك الخطة و”صفقة القرن” الراهنة.
والحال أنّ صفة “الصفقة النهائية”، والتي ترد أيضاً في “الإطار السياسي” لخطة البيت الأبيض، هي الأقرب من “صفقة القرن” في التعبير عن روحية المنظومة العامة التي انطلق منها ثلاثي الإشراف على صياغة نصّ الصفحات الـ 180؛ أي: جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومهندس الصفقة؛ ودافيد فردمان، السفير الأمريكي لدى دولة الاحتلال؛ وجيسون غرينبلات، مبعوث البيت الأبيض الخاص. وليس أنّ الثلاثة يهود فحسب، فالفلسطينيون تعودوا مراراً على طواقم أمريكية تشرف على مفاوضاتهم مع الإسرائيليين، جلّها أو كلها من اليهود؛ بل الأمر أنّ تاريخ البيت الأبيض لم يشهد، أغلب الظنّ، طاقماً أكثر من هذا انحيازاً لدولة الاحتلال، خاصة في السفارة.
النهائي، إذن، بمعنى إنهاء صراع تجاوز عمره قرناً من الزمان، ولكنْ في مستوى منح دولة الاحتلال تسعة أعشار ما تعنتت في طلبه والتمسك به، وما رفضت التنازل عنه على مرّ العقود، وأياً كانت الهوية السياسية لحكومة الاحتلال أو تركيبة الكنيست، أو أياً كان الرئيس الأمريكي نزيل البيت الأبيض. ومن اللافت أنّ العبارة على الغلاف الأخير لنصّ الصفقة تقول التالي: “بينما الرؤيا طموحة، فإنها قابلة للتحقيق. مستقبل الفلسطينيين يعد بالإمكانيات الهائلة. والقصة الفلسطينية لا تنتهي هنا. إنّ قصتهم تُكتب الآن”. والمغزى، خلف هذه البلاغة، لا يخفى في واقع الأمر: هذه هي قصتهم، كما نكتبها لهم اليوم، ولا يتوجب بقاء قصة سواها.
مبكر، إلى هذا، التكهن بمغانم الصفقة المباشرة، سواء في رفع رصيد ترامب لدى الجاليات اليهودية واليمين الإنجيلي المتشدد في أمريكا، أو خدمة نتنياهو في قتاله على جبهتَيْ انتخابات الكنيست والقضاء، أو شقّ مزيد من الدروب أمام أنظمة التطبيع العربية. ومثله مبكر التكهن بأنساق المقاومة والمواجهة، في الصفّ الشعبي الفلسطيني والعربي عموماً، أو لدى سلطات رام الله وغزّة، أو عند “المجتمع الدولي” على صعيد عشرات القرارات الاممية التي تُبطلها الصفقة.
ليس مبكراً، في موازاة ذلك، الاتفاق مع عريقات حول تفصيل، صحيح وصائب وثابت، لا ينتمي إلى عوالم الأسرار ولا أروقة التفاوض السرية؛ مفاده أنّ “صفقة القرن” هي المحاولة رقم 88 لتصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع لصالح الكيان الصهيوني، وأنّ المسلسل المتعاقب منذ الولادة الأولى لمشروع “الدولة اليهودية” في فلسطين لم يفلح البتة في إبطال سطر محمود درويش الخالد: “كانت تسمى فلسطين/ صارت تسمى فلسطين”!.
وسوم: العدد 862