(والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض)
وجيز التفسير :
" حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "
الآيات من سورة الشورى
وأشار عليّ بعض أهل الفضل أن لا أسمي ما أكتبه تحت هذا العنوان بالتفسير . وقالوا لي جميل وحسن ولكن سمه اسما آخر . ذلك أن هؤلاء الأحباب قد علقت في أذهانهم صورة محددة للتفسير . وكان بعضهم من قبل قد أنكر أن يسمى ما كتبه سيد قطب رحمه الله في الظلال تفسيرا . ومن اطلع على مناهج المفسرين ، وطرائقهم يدرك أن التفسير ليس فقط أن أقول : إن معنى الأحرف المقطعة في فواتح السور هو .... وأن أكرر أن الاستفتاح بالأحرف الخمسة حم عسق لم يمر في القرآن الكريم إلا في فاتحة سورة الشورى هنا ، وفي فاتحة سورة مريم " كهيعص " وأنا أتساءل لماذا رسمت الأحرف الخمسة في الشورى منفصلة ، وفي مريم متصلة !!..
كل الذي أحاوله في هذه القبسات أن أربط واقع المسلمين بما في نصوص كتابهم العزيز ، على نحو يتجاوز أحيانا بعض المستقرات الموروثة بمزيد من تاعلم والبرهان .
ولفتني في هذه الآيات قوله تعالى :
تكاد السموات يتفطرن من فوقهن ..
واعلم أن العربي إذا قال : كدت أفعل ، أو أكاد أفعل.. فهذا يعني أنه قارب الفعل ولم يفعل . وإذا قال لم أكد أفعل حتى .. ، ، فهذا يعني أنه قد فعل وأن حدثا ما قد أعقب فعله عن قرب .. .
وقوله تعالى : تكاد السموات يتفطرن يعني أنهن لم يتفطرن . اتساقا مع قوله تعالى " فارجع البصر هل ترى من فطور " . لم يتفطرن ثم عبر بالمضارع في قوله " تكاد " بمعنى أن مقاربة وقوع الحدث العظيم تشقق السموات أو تفطرها مفتوح مترقب للحظة نفوذ الأمر الإلهي فيها ..
الآية فيها إخبار عن مستقبل ، مثلها في الدلالة قوله تعالى " إذا السماء انشقت " و" إذا السماء انفطرت " وقوله " فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان "
ولذلك تستغرب لماذا نحا جمهور المفسرين على إلحاقها بقوله تعالى " لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطر ن منه " مع أنه تخرج في سياق الأُول من الآيات . سياق النذارة المستقبلية التي تخبر البشر أن اقترب موعد تشقق أو تفطر السموات من فوقهن ، وهذا ما يتسق كل الاتساق مع ما ورد في سورة الأنبياء " اقترب للناس حسابهم " تشقق السموات أو انفطارهن وانتثار النجوم وتكوير الشمس واصطدامها بالقمر كل أولئك إشارات إنذار ليوم الدين يوم تطوى السموات كطي السجل للكت . ويبقى فهمنا اللغوي لدلالة كلمة " السموات " يحتاج إلى الخوج من فضاء ابن إياس صاحب بدائع الزهور في وقائع الدهور .
والمحطة الثانية في وقفتنا مع هذه الآيات الكريمة ، وهي المقصودة في هذا المقام فهي مع قوله تعالى " والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض "
والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان الستة " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره "
والملائكة عالم من عالم الغيب لا نعرف عن كنهه إلا ما أخبرنا به مولانا عن طبيعتهم ودورهم ووظيفتهم ، وكل الروايات خارج هذه الحقائق تصورات بشرية كثير منها ظرفي تصوري أو تخيلي أو موروث عن أهل الكتاب تحت عنوان ما يسمى الإسرائيليات .
والملائكة هم خلق من خلق الله . وجند من جنده . لهم طبيعتهم " لا يعصون الله ما أمرهم " حتى اعتبر بعض المتقدمين أن النواميس الكبرى المسيرة للكون العجيب .
وجند الله مسيرون للرحمة كما هم مسخرون بالعذاب .
وقوله تعالى " يسبحون بحمد ربه " مهمة ملائكية مؤكد عليها في آيات عديدة من القرآن الكريم .
وقوله تعالى " ويستغفرون لمن في الأرض "
عند هذه الآية تعددت بل اضطربت آراء المفسرين ..
فأشكل على بعضهم كيف يستغفر الملائكة لمن في الأرض ، وفي الأرض مؤمن وكافر !!
فقال بعضهم : أن الآية منسوخة بقوله تعالى " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا .."
ونسي هؤلاء أن الآية خبرية ، وأن الخبر لا ينسخ .
وذهب بعضهم إلى أن الآية مخصصة بالذين آمنوا . وفيه ادعاء التخصيص بدون مخصص .
وقال فريق ثالث إن الآية مجمل وتفصيلها في قوله : ويستغفرون للذين آمنوا ..
كل هذا لأنه أشكل على البعض : كيف يستغفر الملائكة لغير المؤمنين من سكان الأرض ؟! مع أن الدلالة في الآية واضحة . ومن قواعد الاستنباط لا يعدل عن الظاهر إلا لعلة .
ودلالة الآية متكررة عموما في جملة كثيرة من نصوص الكتاب الكريم ، وجلها في قوله تعالى " الحمد لله رب العالمين " ومعاني الربوبية معروفة مألوفة مأنوسة محببة تشمل بهذه الصراحة الخلق أجمعين . وفي مواضع كثيرة من القرآن الكريم يظل ربنا يتحبب إلى عباده بما وهبهم من نعم ..وشمول من في الأرض جميعا بالخلق والحفظ والرزق مع ما يصدر من بعضهم من نكران وجحود أبلغ من استغفار الملائكة الذي يتهرب من استحقاقاته المتهربون .
وفي الوقت نفسه لم يخف هذا الوجه عن فريق آخر من المفسرين ، فقرروا أن استغفار الملائكة لمن في الأرض جميعا ثابت بالنص ، وأن هذا الاستغفار يخرّج على أحد وجهين ؛ الأول : الاستغفار للمؤمنين من أهل الأرض ، على وجه طلب العفو والصفح والستر. والثاني : الاستغفار لجنس من في الأرض على وجه الدعاء لله أن يلهمهم رشدهم ، وأن يتوب عليهم ، وأن يحلم عن جهلهم ، وأن لا يستأصل شأفتهم ، وأن ينظرهم الحساب إلى يوم موعدهم ..
يعزز هذا ما رواه الشيخان عن رسول الله يوم أحد قوله : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون :
اللهم اغفر وارحم والطف بأهل الأرض أجمعين . ومهما حاول بعضهم أن يضيق الرحمة فرحمة ربنا وسعت كل شيء . ومهما حاول بعضهم أن يحتكر اللطف فقد وزع ربنا لطفه على خلقه فقال : " الله لطيف بعباده"
اللهم الطف بعبادك فإنهم قد نزل بهم من البلاء ما لا يدفعه غيرك .
وسوم: العدد 869