قضية عادلة بيد محام فاشل
من صور الأمية الفكرية الكثيرة الشيوع، خلط بعض المسلمين بين نصوص الوحي وبين أفهام البشر من المفسرين والفقهاء والمفكرين، مع أن الكتاب الوحيد الذي قال الله بأنه {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}، هو القرآن الكريم؛ ذلك أنه {تنزيل من حكيم حميد}، أي أنه انعكاس لصفات الكمال والجلال المطلقة، ومع أنه لا يوجد عصمة لأحد من الخلق إلا للرسول صلى الله عليه وسلم لكونه يوحى إليه من الله: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}؛ ولذلك فإن الله حينما أمر بطاعة محمد صلى الله عليه وسلم إنما أمر بطاعة ما جاء به من الوحي كرسول، لا بطاعة ما اجتهد فيه كبشر، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، وركزوا على مصطلح {الرسول} في هذا الموضع، ذلك أنه حينما يقوم بمهام الرسالة والبلاغ يكسيه الله ثوب العصمة الممنوح له بموجب عقد الرسالة، وما عدا ذلك فإنه بشر يمكن أن يصيب ويخطئ؛ إذ قد يعبس في وجه مسكين ليعاتبه الوحي بقرآن يتلى إلى قيام الساعة: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى}، ويمكن أن يدفعه الحرص على مَرضاة زوجاته إلى تحريم ما أحل الله له من طيبات ؛ فيعاتبه الوحي قائلا: {يا أيها النبي لمَ تُحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك}، ويمكن أن تدفعه الشفقة بأسرى المشركين لأخذ الفدية منهم، رغم أنهم ارتكبوا جرائم حرب في حق المؤمنين، فينزل التسديد الرباني ليقول: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض..}، ويمكن أن تذهب به رحمته إلى حد الإذن لأصحاب القلوب المريضة بالبقاء في المدينة وعدم الخروج للقتال مع أصحاب الأعذار الشرعية؛ فينزل العتاب الرحماني في صورة صفح: {عفى الله عنك لمَ أذنتَ لهم...}، فمتى يعي عامة المسلمين أن انتساب أي شخص إلى دائرة العلم لا يعطيه عصمة لا يملكها أحد، ولا يمنحه شيكاً على بياض؛ ليفتي في دين الله بما يريد؟!
عندما تكون القضية العادلة بيد محام فاشل، يمكن أن تظهر (دعاوى الباطل) في صورة أقوى من (دعوات الحق)، بل وقد تنتصر الأباطيل على الحقائق، إذ لا يكفي أن تكون صاحب حق وذا نية طيبة لكي ينصرك الله، بل لا بد من أن تتسلح بالحُجج وتتوسل بالبينات، ألم يقل الله لأفصح الخلق وأبلغ الورى: {وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً}؟ ألم يتوسل الحبيب محمد بالخطط الدقيقة ويتسلح بكل متاح من أسلحة زمانه؟ ألم يقم في بدر بجمع المعلومات عن جيش قريش بنفسه هو وأبو بكر الصديق حتى تكون خططه مبنية على معرفة دقيقة بالعدو؟ ألم يضع أمهر الرماة في موقعة أحد في المكان الأنسب من الجبل حتى يحموا ظهورهم وأمرهم بأن لا يبارحوا أماكنهم ولو رأوا الطير تتخطّف المسلمين؟ ألم يعمد إلى دسّ من يثير الفتنة بين أعدائه كما فعل عن طريق نعيم بن مسعود يوم الأحزاب؟! ألم يستخدم الاستعراض العسكري لإثارة الهلع في نفوس قادة أعدائه يوم الفتح؟ ألم يستخدم سلاح الإعلام على الوجه الأمثل عن طريق توظيف كفايات الشعراء لرفع الروح المعنوية للمجاهدين المسلمين مقابل النيل من معنويات المقاتلين المشركين؟ ألم يشترِ السيوف والدروع من اليهود ويدرب من الصناع المسلمين من يأخذ منهم هذه الخبرة ويطورها في سبيل الاكتفاء الذاتي من السلاح؟
وسوم: العدد 870