لا إكراه .. قوة لا ضعف ونباهة لا بلاهة
ذات مساء من أمسيات لندن وفي إحدى المراكز الدينية رأيت حركة غير طبيعية على وجوه متجهمة، سألت صاحبي ممن يديم الحضور إلى المركز عن الأمر فأسرّني بأن هؤلاء ساءهم ما جرى في مدينة كاشان في إيران من إغلاق مقبرة أبي لؤلؤة الذي قيل أنه من المتصوفة، وهم عازمون على عقد إجتماع مغلق للخروج بقرارات عملية للوقوف أمام هذا الحدث، ففهمت الأمر إلى آخره.
وبين أنا جالس مع بعض الرفقة نتحدث في أمور مختلفة بعد انتهاء الخطيب من مجلسه كعادتنا حيث تجمعنا المراكز والمنتديات والحسينيات في المهاجر، جاءني أحدهم من دعاة الإجتماع المغلق وقد سادت قسمات وجهه الغضب داعيا إياي المشاركة في إبداء الرأي:
فسألته سؤال استنكار عن الغرض من الإجتماع.
فقال بنبرات مرتجفة غاضبة: إنَّ السلطات الأمنية في إيران أغلقت مقبرة أبو لؤلؤة في كاشان.
فعدت وسألته سؤال مستفهم مستنكر عن شخصية أبو لؤلؤة؟!
فقال: ألا تعرفه؟
قلت نعم: الآن تذكرته إنه قاتل الإمام علي (ع).
فرد علي مستنكرا: أو لا تعرف من هو قاتل الإمام علي (ع) وأنت الذي صرفت عمرك في القراءة والكتابة والتأليف والبحث والتحقيق في أكبر موسوعة علمية هي دائرة المعارف الحسينية؟
قلت: أو ليس قاتله هو أبو لؤلؤة؟
فرد بعصبية: ما تقول يا دكتور إنَّ قاتل الإمام علي (ع) هو الخارجي عبد الرحمن بن ملجم المرادي وأبو لؤلؤة فيروز النهاوندي هذا الموجود قبره في كاشان هو قاتل عمر بن الخطاب.
قلت له: بلى إن أبا لؤلؤة هو الذي قتل الإمام علي (ع) أو ليس هو الذي سنَّ قتل الخلفاء حينما غدر بعمر بخنجر مسموم وهو في المسجد؟ والمرادي الذي نلعنه ويلعنه اللاعنون هو الذي غدر وهوى بسيفه المسموم على رأس خليفة المسلمين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو في محراب الكوفة، فهذا أخذ من ذاك!
فزاد استغرابه من كلامي، ثم قلت له: وكيف وصل صاحبكم أبو لؤلؤة هذا من المدينة إلى كاشان؟
قال: ألا تعرف .. ألم تقرأ التاريخ؟
قلت: نعم قرأت التاريخ، وما أدريه إنه ألقي القبض عليه وتم الإقتصاص منه، وزاد عبيد الله بن عمر بن الخطاب على ذلك انتقامًا لأبيه بقتل ابنة أبي لؤلؤة دون ذنب، واقتص من آخرين بصورة جاهلية بشعة دون وجه حق!
قال إذن أنت لم تقرأ التاريخ على حقيقته.
قتل له: وكيف زدني؟
قال: إن القوم لم يلقوا القبض على أبي لؤلؤة وإنما هرّبه الإمام علي إلى إيران بغمضة عين.
قلت: وكيف ذلك زدني علما؟
قال: أدخله تحت جبته ومدَّ يده إلى إيران وأنزله من كمّ يده في كاشان؟
قلت: يا سبحان الله وهل كان المسلمون في عهد الرسالة الأولى يرتدون الجبة التي يلبسها اليوم علماء الدين، وكيف يفعل خليفة الرسول (ص) هذا، ولو أراد أن يتولى أمر المسلمين لما احتاج إلى ما فعله أبو لؤلؤة، وفي أكثر من مناسبة إئتمن الخليفة عمر عليًّا عليه السلام وولاّه المدينة وهو ذاهب إلى مهمة خارجها، مثلما فعل عندما ذهب إلى بيت المقدس بمشورة من أمير المؤمنين علي عليه السلام، لأن الخليفة كان على دراية تامة وفي قرارة نفسه أن أبا الحسنين أحرص على دين الإسلام ورسالة محمد (ص) من غيره من الصحابة، ولا يستأمن غيره ويخاف الغدر من أقرب الأقربين إليه، فلو أرادها عليا بهذه الطريقة التي في ذهنك فكان الأولى أن يأخذها ومقاليد الحكم بيده والحاكم الأول منشغل مع بطانته خارج المدينة!
ثم قلت له: يا صاحبي دعك من هذه الخزعبلات والخرافات التي لا تغني ولا تسمن من الولاء شيئا؟
فردًّ علي: يا دكتور عليك بمراجعة دينك وإيمانك فأنت ضعيف الولاء، وعليك أن تعيد حساباتك وتقوي إيمانك بأهل البيت عليهم السلام!
قلت: ونعم البيت هم أهل بيت النبوة عليهم السلام، وعدم إيماني بخزعبلات بعض كتبة التاريخ لا يقلل من إيماني بالمعتقد كما لا يزيدك إيمانك بها قربا من أهل البيت عليهم السلام.
بالطبع ذهب صاحبنا منزعجا إلى الإجتماع المغلق الذي لم يفض إلى شيء، ولكن بقيت علاقتنا طيبة والإحترام قائم، فليس لي أن أدخل في ضميره لأغيّر مما أرى أنه من الخرافة والغلو، وليس له أن يدخل في ضميري ليغير مما يراه من الحقيقة ومبلغ الإيمان، لأن الإعتقاد لما بعد التوحيد والنبوة أمر نسبي ولهذا ظهرت المدارس الفقهية والمذاهب الإسلامية.
هذا الحدث الذي وقع في حزيران عام 2007م، استذكرنيه كتيب "شريعة المعتقد" للمحقق الفقية آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر في بيروت نهاية العام 2019م عن بيت العلم للنابهين في 72 صفحة بضميمة 131 مسألة شرعية و40 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري وقد تقدمت على مسائل الأحكام والتعليقات مقدمة للناشر ومثلها للمعلق وثالثة للمصنِّف مهّد بها لأحكام المعتقد.
القدر المحتوم
ما يميز الإنسان عن مخلوقات الأرض كما يؤكد الفقيه الكرباسي هو العقل والإرادة، فلما كان العقل هو المائز إذن: (يكون صاحب خيار، له أن يقبل أو يرفض، وما هذه الإرادة وهذا الإختيار إلا لأنه يتمتع بالعقل) وهذا ما يدفعه للإيمان بعقيدة بغض النظر ما إذا كانت العقيدة بنظر الآخر سليمة أو غير سليمة، إذ لا وجود لإنسان على وجه البسيطة من غير عقيدة، وحتى مسمّى الإلحاد هو بحد ذاته عقيدة، إذ لا وجود لمعنى اللادين أو عدم الإيمان بدين، أرضيا كان أو سماويا، فالمنتمي لدين أو مذهب أو حزب أو جماعة أو فرقة هو معتقد ومؤمن فهو غير مستقل بالمعنى الحرفي، وغير المنتمي أو الملحد أو المستقل هو الآخر معتقد بما آمن به، فما يقابل الدين هو الإلحاد وما يقابل الإلحاد هو الدين وكلاهما معتقد ودين، وما يقابل المنتمي هو المستقل وما يقابل المستقل هو المنتمي وكلاهما حزب واعتقاد.
فالمعتقد بدين عند المجادلة يدافع عن معتقده، وهذا ما يفعله الملحد ذاته، فهما يدافعان عن أمر آمنا به، كل على معتقده، والحزبي عند المناظرة يدافع عن حزبه ومساره وأهدافه، وهذا ما يفعله المستقل في تبرير موقفه، فهما يدافعان عن أمر آمنا به، كل على طريقته.
فالذي يؤمن بفكرة أو مذهب أو طريقة ويدافع عنها إنما هو مؤمن ومعتقد، وكما يؤكد الفقيه الكرباسي: (إنَّ العقيدة مأخوذة من العقد وهو الإبرام ومنه العُقدة والعقود، والمفردات الأخرى هي مجازات تطورت في فضاء هذا المعنى، فإنك عندما تطلق كلمة العقيد على بعض من تَولى مناصب في الجيش لأنه تُعقد به الآمال فيكون عقيدًا، ومن هنا فإنَّ المعتقد هو الفكرة التي تتعاقد معها بعد دراسة طويلة وموضوعية ليكوّن قاعدة أساسية لك في الحياة ترجع إليها وتغترف منها، وعليها تعقد كل أمورك وتصرفاتك، فكأنما عقدت معه اتفاقية لأن تكون ملتزما بموادها وتعليماتها).
ومن الطبيعي أن يستتبع المعتقد، العمل وفق متبنيات تلك العقيدة، وبتعبير الفقيه الغديري: "العمل هو المقصود في المعتقد، والتعهد الفكري هو الأساس للتعهد العملي وبصحّة الأول تتم صحة الثاني، ففي صورة وقوع الخلل في الأوَّل يضعف الجانب الثاني أصلا وفرعًا، فعلى ذلك يجب تحصيل المعرفة بأصول المعتقد والتيقن بصحته).
ومقتضى الإيمان بعقيدة هو الإختيار والقناعة إذ (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) سورة البقرة 256، وإذا اختار المرء الإسلام دينا فينبغي عليه أن يظهر ذلك في مسيرته، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (وما إن اختار الإسلام عقيدة ومنهجًا لابد من عرض أعماله وأقواله بجزئياتها وكليّاتها على النور الذي أضاء له الإسلام ليكشف مدى التزامه وانحرافه عن الجادة الوسطى، ليرجع إلى مساره الطبيعي ليكمل الطريق وينال الدرجات العالية والمكانة المرموقة)، فالإيمان المجرد عن السلوك لا يكفي: (لابد أن يسري حمله للفكرة إلى مرحلة التطبيق ليكون سلوكه مطابقًا مع ما يحمل من الفكر، وإلا فإن الفكرة دون التطبيق لا تجدي المجتمع شيئا)، من هنا يؤكد الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام على المسلمين قرن الإيمان بالعمل الصالح: (كونوا لنا زينا ولا تكونوا علينا شينا، قولوا للناس حسنا، واحفظوا ألسنتكم، وكفوها عن الفضول، وقبح القول)، لأن المعيار في القرب من لب العقيدة ومرادها هو العمل والعلاقة الطيبة مع المجتمع.
في الصميم
يواصل الفقيه الكرباسي في أحكام المعتقد وضع النقاط على الحروف في بيان المعتقدات والمذاهب الفكرية العلوية والدنيوية وموقف الإسلام منها وموقفها من الإسلام، شارحا من حيث اللغة والإصطلاح مفردات: الكفر، المنافق، المسلم، المؤمن، أهل الكتاب، الكافر، المتقي، المعصوم، الأديان السماوية اليهود والصابئة والنصارى والمجوس، المعتقدات الدينية الأرضية، الملحد والإلحاد، الوحدانية، الغلو، المعجزة، اللعن والسب، المجسّمة والمجبرة والمفوضة ومنكرو خاتمية الرسالة والرسول، المرتد عن الإسلام، المرتد عن مذهب، الفرق الدينية، الفرق السنية، الفرق الشيعية، الخوارج، الباطنيون، القاديانية، البهائية والبابية، الوهابية، البوذية والهندوسية والسيخية وعبدة الشيطان والأرواحية، العلمانية، الشيوعية، المنبئة، المنجمون، مجددو الإسلام، الحزبيون، وما شابه.
ومن جميل ما جاء به الإسلام كما يشير إليه الفقيه الكرباسي في مطاوي الكتيب وثنايا المسائل هو الدعوة إلى الوسطية والإعتدال: (وعدم الإنجرار وراء إفراط العقيدة أو تفريطها ليصل إلى درجة التزمُّت أو درجة اللامبالاة، بل لابد من الوسطية التي توازن الأمور فلا يتجاوز الحدود التي رسمها الله له، وبها يجلب الإنسان لنفسه خير الدنيا والآخرة ويكون من الفائزين بهما).
ومن جميل حوارات الإسلام مع غيره من المعتقدات والأديان كما يشير إليه الفقيه الكرباسي عبر ما يعرضه من أحكام العقيدة، هو أن الإسلام لا يعارض معتقد قوم أو ملة وينتقده قبل أن يستعرض مباني المعتقد ويدخل في تفاصيله ليظهر خطله وخطأ المسار، داعيا في الوقت نفسه المسلمين إلى إحترام معتقدات الآخرين ومجادلتهم بالتي هي أحسن وعدم التعرّض لهم بسب أو شتيمة لأنَّ الشتيمة دليل ضعف لا قوة، وبلاهة لا نباهة، ولهذا جاء التأكيد القرآني: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) سورة الأنعام: 108، وبناءً عليه يؤكد الفقيه الكرباسي في المسألة 73: (لا يجوز سب وشتم الآخر مهما كان دينه ومذهبه) والسب غير اللعن لأن الثاني: (هو طلب العبد من ربه إبعاد الآخر من رحمته) فالشتيمة دعوة موجهة إلى الآخر مباشرة وهي تؤذيه إن سمعها في حين أنّ اللعنة حديث مع الرب.
وبالطبع إن إعتزاز المسلم بما يؤمن لا ينبغي أن يخرجه عن دائرة التعاون على البر والتقوى مع الآخر غير الشاهر لسلاح العداء، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (كل ما قيل فيما سبق لا يعني بالضرورة إضمار العداوة لغير المسلم بل تجوز صداقتهم والتعامل معهم ومساعدتهم ومزاملتهم شرط أن لا يؤثرِّ سلبا في الحياة الإجتماعية والعقائدية)، وهنا يظهر معدن الإسلام ومعدن المسلم، لأن الدين المعاملة، والدين الحب، والآخر من الناحية العملية يتعرف على الدين من خلال سلوك التابعين، وهذا الكتيب بما فيه من مسائل وتعليقات هي دعوة صريحة للتعامل الحسن مع الآخر وفق مفاهيم الإسلام القائمة على الإختيار والإرادة والوسطية وعدم الإكراه.
وسوم: العدد 878