احتفالية أيلول المقبلة
يقول مثل شعبي "أيلول طرفه بالشتا مبلول"، في إشارة إلى الأمطار الخفيفة التي اعتاد المزارعون في بلادنا انتظارها في نهاياته لتنضج ثمار الزيتون، وتغسل حبّاته مما علق بها من غُبار الصيف، تمهيدًا لموسم جنيه وعصر زيته الذهبي. وشهر أيلول (سبتمبر)، كغيره من شهور السنة، يحتفظ بنكهته ومذاقه، ويكثر فيه، على مدى الأيام، ما يُكدر وما يسر. لكن أيلول 2020 اختار أن يذكّرنا بأسوأ ما فيه؛ بنكساته وتراجعاته وهزائمه، منذ بدأت جولة جديدة من التطبيع العربي مع العدو الصهيوني، بالإعلان عن الاتفاق الإماراتي – الصهيوني، أو بمعنى أدق إشهار التحالف بينهما؛ ذلك أن مرحلة تطبيع العلاقات قد أُنجزت منذ وقت بعيد.
ثمّة، في هذا الشهر، صلفٌ وعنجهية صهيونية وأميركية تفوق المعتاد عنهما، وافتعال لحوادث، ومصادفات متعمدة، تهدف إلى تذكيرنا بهزائمنا وقوتهم، وتسعى، في ما تسعى إليه، إلى تبنّي رؤية نتنياهو لآلية تحقيق السلام مع العالم العربي، وتعزيز حظوظ الرئيس دونالد ترامب بالفوز في الانتخابات الأميركية، وربما ترشيحه لجائزة نوبل للسلام، كما تم سابقًا مع أغلب الذين عقدوا اتفاقات ومعاهدات مع الكيان الصهيوني.
أصبح أمن دولة الكيان متحققًا بفعل انهيار النظام العربي، وتطويع منظومة أمن السلطة الفلسطينية، واعتقادها بأنها لتي تستطيع فرض الأمن لنفسها
لم يعد مفهوم السلام لدى نتنياهو يتمثل في مقولة "الأرض مقابل السلام"، بما تعنيه من إعادة الأرض المحتلة عام 1967، مقابل تحقيق السلام، أو في مقولة "الأمن مقابل السلام"، أي أن تحصد إسرائيل الأمن مقابل السلام، إذ أصبح أمن دولة الكيان متحققًا بفعل انهيار النظام العربي، وتطويع منظومة أمن السلطة الفلسطينية، واعتقادها بأنها هي التي تستطيع فرض الأمن لنفسها، وأنها أضحت قادرةً على مواجهة أي تهديدات أمنية. وحتى مفهوم السلام لأجل السلام لم يعد مستساغًا، إذ ثمّة ثمن يجب دفعه مقابل الحصول على الرعاية الصهيونية. حل بدلًا من ذلك كله مفهوم جديد صرح به رئيس الوزراء الإسرائيلي، بعد الإعلان عن الاتفاق الإماراتي – الصهيوني، أن القوة هي التي تجلب السلام. وضمن هذه الغطرسة، نفى نتنياهو أن يكون الاتفاق قد تضمن موافقته على تزويد الإمارات بطائرات F35، مؤكدًا أنه سيستمر في الاعتراض على تزويد الولايات المتحدة أي دولة في الشرق الأوسط بمثل هذه الطائرة المتفوقة. وهو أمر مثير للسخرية، فمعروف أن الطائرات التي تزود بها الولايات المتحدة الدول العربية لا تشابه مثيلاتها لدى إسرائيل سوى بالهيكل الخارجي، وتختلف عنها كليًا في منظومات الأسلحة والرادار والتوجيه التي تزوّد بها. ومع علم نتنياهو بذلك، إلا أنه أصرّ على تكريس التفوق الصهيوني حتى مع حلفائه.
حتى مفهوم السلام لأجل السلام لم يعد مستساغًا، إذ ثمّة ثمن يجب دفعه مقابل الحصول على الرعاية الصهيونية
جرت في أيلول الحالي أيضًا المحاولة البائسة لتصوير الاتفاق الإماراتي - الإسرائيلي وكأنه فتح لباب الاعتراف والتطبيع العربي على مصراعيه. ومن هذا المنطلق، جاءت زيارة وزير الخارجية الأميركي، بومبيو، تل أبيب، والتي انطلق منها إلى بضع عواصم عربية، على أمل أن يحوز اعترافًا عاجلًا من إحداها، يبدو أن الإدارة الأميركية بحاجة إليه لتعزيز الاتفاق الإماراتي - الإسرائيلي، وضمان تذكرة العودة إلى البيت الأبيض في انتخابات الرئاسة. لحق جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي، بوزير الخارجية إلى تل أبيب، ليصطحب وفدًا أميركيًا - إسرائيليًا مشتركًا على متن طائرة العال الإسرائيلية، من تل أبيب إلى أبوظبي مباشرة، عبر الأجواء السعودية. فشلت الولايات المتحدة، حتى الآن، في تحقيق اختراق مباشر، لكنها نجحت في إبقاء التطبيع المستتر قائمًا، وتمكّنت من ترويجه، ومن الحصول على بعض المكاسب، أهمها فتح الأجواء السعودية أمام الطائرات الإسرائيلية.
لماذا اختار الصهاينة أن تحمل طائرة السلام الإسرائيلية التي أقلت الوفد المشترك اسم كريات جات؟ وهو اسم مستوطنة صهيونية أُقيمت على أراضي قريتَي عراق المنشية والفالوجة، حيث حوصر جمال عبد الناصر والقوات المصرية في حرب 1948؟ هل كان ذلك تلميحًا لاستمرار التفوق الصهيوني منذ النكبة؟ وهل جاء اختيار وقت توقيع الاتفاق ومكانه المزمع، في 13 سبتمبر/ أيلول، وفي البيت الأبيض، محض مصادفة، أم هو تذكير لنا بتاريخ توقيع اتفاق أوسلو ومكانه؟ وليس مستبعدًا أن يذكّرنا خطباء الاحتفال بذلك الاتفاق، وباتفاق كامب ديفيد، في 17 من الشهر ذاته من عام 1977. وقد تتوسّط الاحتفالية التاريخين للدلالة على ارتباطها بهما. وفي اليوم التالي للاحتفال، سيبشّرنا دعاة التطبيع، وعناوين صحفهم، ومواقعهم الإخبارية، بأن الاحتفال جاء استمرارًا لما فعله قادة عرب وفلسطينيون، وتتويجًا لاتفاق أوسلو الذي وُقّع في التاريخ ذاته والمكان عينه.
حملت طائرة السلام الإسرائيلية التي أقلت الوفد المشترك إلى أبوظبي اسم كريات جات، وهو اسم مستوطنة صهيونية
يأتي هذا ولا يزال قادة السلطة ومثقفوها يكرّرون أن اتفاق أوسلو كان إنجازًا، وامتدادًا للبرنامج المرحلي (1974)، وإعلان الاستقلال (1988)، وتعزيزا للكيانية الفلسطينية، معتبرين أن الاعتراف الإسرائيلي بمنظمة التحرير ممثلًا للشعب الفلسطيني، (وليس ممثلًا وحيدًا)، في أي مفاوضات، اعترافًا بالشعب الفلسطيني نفسه، في حين أن المنظمة اعترفت ليس بإسرائيل كأمر واقع فحسب، بل وبحقّها في الوجود، أي بالرواية التاريخية الصهيونية على أرض فلسطين. ناهيك بآثار هذا الاتفاق المشؤوم. وما زال هذا الكلام يردّد حتى ما بعد إعلان "صفقة القرن".
بعد هذا كله، واستباقًا لاستغلال اتفاق أوسلو لتحميل الفلسطينيين مسؤولية ما تقترفه أيدي المحتفلين في واشنطن من موبقات، هل ستقوم قيادة السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، بخطوة تصحيحية آن أوانها؟ إذا ألغت فورًا اتفاق أوسلو، وسحب اعترافها بإسرائيل (وليس مجرّد عرض لصيغة باهتة حول التحلل من الاتفاقات)، فقد تكون هذه الخطوة ضرورية ومطلوبة قبل احتفالية واشنطن المقبلة، وهي في ذاتها الخطوة التي ستعيد المسار الفلسطيني إلى جادّته السليمة، والتي ستعيد طرف أيلول بأمطار الخير مبلولا، ليغسل بعض ما علق به من آثام وغبار وشرور.
وسوم: العدد 893