أليس الله بأحكم الحاكمين؟!
إذا كان الصانع البشري، يعرف بصنعته أكثر ممن سواه، ويملك أسراراً عنها، لا يملكها أي إنسان آخر، بل يملك من المعلومات والأسرار عن صنعته، أكثر ممن يملك أعلى الشهادات الجامعية، في اختصاص تلك الصنعة!
إذا كان هذا المخلوق البشري، الذي خُلق من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، كما قال الخالق العظيم المبدع: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخٗاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبۡلُۖ وَلِتَبۡلُغُوٓاْ أَجَلٗا مُّسَمّٗى وَلَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ﴾ غافر 67.
وإذا كان هذا المخلوق البشري، يتصف بالعجز، والضعف، والقصور، ويتعرض إلى النسيان، وإلى المرض، ويمر بأطوار متعددة في حياته، من الطفولة إلى الشباب، ثم إلى الكهولة، ثم إلى الشيخوخة، ثم إلى البلى والموت، والهلاك، كما وصف ذلك العليم الخبير ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفٖ قُوَّةٗ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٖ ضَعۡفٗا وَشَيۡبَةٗۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡقَدِيرُ ﴾ الروم 54.
إذا كان هذا المخلوق، الذي ليس لديه من العلم إلا قليلاً، كما قرر الحكيم العليم ( وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا ) الإسراء 85.
وإذا كان هذا المخلوق الصانع، لا يستطيع أن يعرف إلا أسرار صنعته فقط ، ولا يستطيع أن يعرف أسرار صنعة غيره، ولو كانت من نفس النوع!
وبكلمة أخرى فإن الذي صنع سيارة التايوتا اليابانية، لا يستطيع أن يعرف أسرار صنعة سيارة المرسيدس الألمانية، ولا سيارة الروز رايس البريطانية.
وإذا كان هذا المخلوق البشري لا يعرف الغيب، ولا يعرف متى يأتي رزقه، وماذا سيكسب غداً، ولا يعرف متى يموت، ولا بأي أرض سيموت فيها، ولا يعرف ماذا يجري في داخل الأرحام بشكل دقيق في كل ثانية – غير المعرفة الظاهرية التي سمح الله له بها – ولا يدري متى تضع كل ذات حمل حملها ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ ﴾ لقمان 34.
إذا كانت جميع هذه المواصفات السلبية، المتجذرة في بنية المخلوق البشري، منذ أن خلق الله تعالى آدم، والمتعششة في كيانه، من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، والتي تشمل الضعف، والعجز، والقصور، والجهل، وقلة العلم، وكثرة النسيان، وارتكاب الأخطاء، والتعرض إلى صروف الزمان وأحداثه.
إذا كانت هكذا هي طبيعة المخلوق البشري، فهل هذا المخلوق البشري، مؤهل لأن يصنع قانوناً، يحل مشاكل أبناء جنسيه، ويعالجها بجدارة متناهية، وقدرة فائقة، على تحقيق العدل، بين بني البشر، وإنصافهم، وكبح جماح الفاسدين والمفسدين، والمجرمين، والقتلة، وكيف يكبح جماح القتلة المجرمين، وهو ينص في القانون الذي صنعه، بمنع قتل القتلة المجرمين، ويكتفي فقط بسجنهم لسنوات معدودات؟! ثم يُطلق سراحهم، ليعودوا إلى ممارسة القتل والإجرام مرة أخرى.
بالتأكيد لا يستطيع، ولن يستطيع هذا المخلوق البشري، إنتاج أي قانون قادر على تلبية حاجيات البشر كلها، وتحقيق العدل بينهم، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتحقيق السلام، والسعادة، والراحة، والطمأنينة، والسكينة، لأنه أعجز، وأضعف، وأحقر، وأجهل من تحقيق ذلك كله، لأنه لا يملك أسرار الصنعة الربانية المعقدة جداً جداً، ولا يدري عنها إلا القليل جداً جداً، وقد دعا العليم الخبير، البشر، لينظروا في أنفسهم، حتى يعرفوا مقدار حجمهم، ومقدار شأنهم، ومقدار إمكانياتهم، وقدراتهم، فقال: ﴿ وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ﴾ الذاريات 21.
إذن لا يبقى في الساحة، إلا صانع الإنسان، ومصوره، ومكونه، وخالقه، وهو الله جل شأنه، فهو الوحيد والأوحد، الذي يملك أسرار صنع الإنسان.
وبما أن الله جل في علاه، يمتلك جميع الصفات العليا، ويمتلك الكمال المطلق، والصفات الإيجابية المطلقة، والعلم المطلق، والحكمة المطلقة، ويمتلك الأسرار الكاملة، بتفاصيلها الدقيقة جداً عن صنعة الإنسان، وصنعة الكون وما فيه من مخلوقات أخرى، مبثوثة في أرجاء هذا الكون، الذي سخره، وسخر مخلوقاته بأجمعها للإنسان، كما وصف ذلك الصانع الأعظم:
﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ ﴾ إبراهيم 32.
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ) النحل 12. ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ﴾ النحل 14.
بما أن لله، هذه الصفات العظيمة، وهذه القدرات الكبيرة، التي لا تشبه خلقه أبداً ﴿ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾ الشورى 11.
إذاً، هو الله الأقدر، والأكفأ، والأجدر، بأن يصنع للبشر جميعاً، قانوناً ينظم شؤونهم الحياتية في كل زمان ومكان، ويُقيم العدل الكامل، ويردع الفاسدين والمفسدين في الأرض، ويمنع اللصوص، من سرقة ممتلكات الناس، ويمنع انتشار الفاحشة، وأكل أموال الناس بغير حق، ويُضفي على المجتمع، هالة من القداسة، والنظافة، ويخيم عليه الطهر، والعفاف، والفضيلة، ومكارم الأخلاق، ويقوي الصلات الاجتماعية بين الأفراد، فيصبحون كلهم جسداً واحداً، ولُحمة واحدة، كما وصف ذلك سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، عن النعمان بن بشير ( مَثلُ المؤمنينَ في تَوادِّهم، وتَعاطُفِهم، وتَراحُمِهم، مَثلُ الجَسدِ، إذا اشتَكى منه عُضوٌ تَداعى سائرُ الجَسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى).
وبما أننا قررنا في البداية، أن الصانع، أعرف بصنعته، وما تحتويه من أسرار، أكثر ممن سواه، فيجب أن نطبق هذه القاعدة، على الصانع الرباني، الذي يمتلك من الصفات، أعلى وأكبر وأكثر مما يمتلكه الصانع البشري، بما لا يُقاس من المرات، علاوة على أن صفات الصانع البشري، هي منحة، وهبة، ونعمة من الله، تفضل بها على عباده، فلولا الصانع الرباني، لما كان عند الصانع البشري شيء ( وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ ) النحل 53.
ومجرد مادة واحدة من مواد القانون الرباني وهي ( وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ) البقرة 179. تنسف القانون البشري نسفاً، وتذره قاعاً صفصفاً، وتحطمه، وتمزقه، وتفتته، وتظهر للملأ عواره، وعيوبه، وسلبياته، وتناقضه، وتفاهته، وسخافته، وضحالة تفكير صانعه، وعجزه عن تأمين الحياة السليمة المستقيمة للناس أجمعين!
لأن القانون البشري، يرأف، ويرحم القتلة المجرمين، وقاطعي الطرق، والمفسدين في الأرض، فيُبقي على حياتهم، ليبقى المجتمع خائفاً، ومتوجساً، وقلقاً على حياته، وعلى أمن أفراده، من بقاء القتلة المجرمين، واللصوص، والزناة، أحراراً بعد سجنهم لبضع سنوات، فيعودون ليعيثوا في الأرض فساداً، وينشروا الرعب، والهلع، والخوف بين الناس ( أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَٰكِمِينَ ) التين 8؟!
حينما يضع المُشرع الرباني، في بنود قانونه، بند العقاب ( يٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ ) البقرة 178. ألا يدل هذا القانون، على أنه أرقى، وأرفع، وأعلى قانون عرفته البشرية، منذ آدم وإلى الآن؟!
ألا يدل هذا القانون، على فطنة، وذكاء، وحكمة، ومنطقية، وعقلانية، لم يعرفها أي قانون بشري البتة! ويدل أيضاً، على حرص شديد على المجتمع، وعلى سلامته، وعلى رحمته، ورأفته بالناس الأبرياء، وعلى شدته وغلظته على السفاحين، والقتلة، واللصوص، والعصابات المجرمة، مما يؤدي إلى قطع شأفتهم، واستئصال جذورهم!
أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَٰكِمِينَ؟! حينما يفرض قطع يد السارق ( وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ) المائدة 38. فيخلص المجتمع من اللصوص، والحرامية، والسارقين الذين يسطون على بيوت الناس، ومحلاتهم، ومصانعهم، وبنوكهم، فيكون قطع أيديهم، عظة وتخويفاً للسارقين، وأماناً للمجتمع!
فالله تعالى لا يريد تشويه أجسام الناس، بقطع أيديهم، وأرجلهم، وصلبهم! ولكن الذين يهددون أمن المجتمع وسلامته، يستحقون التشويه، والنكال، لكي يكونوا عبرة للآخرين! فهم الذين ظلموا أنفسهم، وساقوها إلى الهلاك!
أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَٰكِمِينَ؟! حينما يفرض جلد الزاني، ورجم الزاني المحصن، ويأمر المؤمنين بقوة وشدة، بعدم الرأفة، ولا الرحمة بالذين يقوضون الأخلاق الكريمة، ويشيعون الفاحشة، والرذيلة في المجتمع ( ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ) النور 2.
أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَٰكِمِينَ؟! حينما يطهر المجتمعات البشرية، من عصابات الإجرام والقتل، والمفسدين في الأرض، فيضع بنداً في قانونه العظيم، تتزلزل له فرائص المجرمين، وترتجف قلوبهم، فينهارون، ويتلاشون لشدة العذاب الذي سيتعرضون له، من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، والصلب ( إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ) المائدة 33.
كما أنه يقرر قاعدة قانونية، تكفل حياة الناس بأمان، وسلام، لم تعرفها البشرية، لا قديماً ولا حديثاً، ولم تخطر على بال المشرع البشري المتهافت البتة ( مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ ) المائدة 32.
النتيجة الحاسمة
إن الله، هو الرحمان الرحيم، وهو أرأف بعباده، من عباده بأنفسهم، وقد شرع لهم قانوناً متوازناً، ومناسباً، ومتلائماً مع بنيتهم المادية، والروحية، والنفسية، والعقلية، والفكرية، وضمن لهم حياةً طيبةً، صالحةً، تسودها الفضيلة، والطُهْرُ، والعفافُ، وخالية من القتل، والاغتصاب، والاعتداء، وخالية من انتهاك الأعراض، والرذيلة، ومن الظلم، والجَوْرِ، والطغيان، كما ضمن للإنسان كرامته، وعزته، وحريته، وكفل له انتقاد أعلى مسؤول في الدولة، وهو آمن على حياته.
فهل ثمة قانون بشري يفعل ذلك كله؟! لا! وأيم الله، لا يوجد على وجه الأرض، قانوناً يماثل ويشابه قانون الله! فعلام يرفض الإنسان، البائس، التعيس! قانون الصانع، والخالق له، والذي يعلم السر وأخفى، ويعلم الغيب، ويعلم ما تُخفيه الصدور، ويعلم ما تحدثه به نفسه؟!
وسوم: العدد 922