«الفَاحشةُ» و«الزِّنا»
تفْسيرُ القُرْآنِ بِالقُرْآَنِ
د. محمد عناد سليمان
أردتُ من هذا البحث أن أنبِّه على بعض المغالطات التي يقع فيها القارئ، أو السَّامع عند الوقوف على بعض ما أجمع عليه أهل العلم، أو المفسِّرون، فينطلق الحكم بأنَّ ما ورد عنهم هو الصَّواب، خاصَّة إذا ما علمنا وجود أقوالٍ أخرى تخالفهم، وتذهب مذهبًا لا يبعد كثيرًا عن رؤية الحقيقة، والتي تتوافق مع نصِّ «القرآن الكريم»، وما إغفالها إلا نتيجة للإجماع الذي أصبح مقدَّسًا عند بعض «أهل العلم»، وقد اتَّفقوا بأنَّه ثبت في الأصول: يجوز للعالم أن يفسِّر القرآن، ويفهم منه ما لم يكن مرويًّا عن أحد، بشرط ألا يخرج بذلك عن مدلولات «اللُّغة العربيَّة» في مفرداتها وأساليبها، فالمجيءبتأويل جديد يخالف إجماع المفسِّرين جائز، ولا شبهة فيه.
ومن هذه المغالطات التي أوردها «أهل التَّفسير» أنَّهم يفسِّرون «الفاحشة» في «القرآن الكريم» أينما وردت بـ«الزِّنا»، كقول «ابن الأثير»كما ينقله «ابن منظور» في «لسانه»: «قال ابن الأَثير: وكثيراً ما تَرِدُ الفاحشةُ بمعنى الزِّنا، ويسمَّى الزَّنا: فاحشةً، وقال اللَّه تعالى: إِلا أَن يَأْتِينَ بفاحشةٍ مُبَيِّنةٍ؛ قيل: الفاحشة المبينة أَن تزني فتُخْرَج لِلْحدّ، وقيل: الفاحشةُ خروجُها من بيتها بغير إِذن زوجها» انتهى كلامه.
وليس المقام يسمح للرَّد على ما ذكره «ابن الأثير»، فليست «الفاحشة المبيَّنة» يُراد بها «الزِّنا»، يردُّه قوله تعالى لــ«نساء النَّبيِّ» صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }«الأحزاب30».
ومنه ما ذكره «القرطبيّ» عن «مقاتل»، فقال: «إنَّ كلَّ ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنَّه الزِّنا، إلا قوله: الشَّيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء فإنَّه منع الزكَّاة» انتهى كلامه.
ومثل هذا القول ليس بالصَّواب، سواء أكان المقصود باللَّفظ «الفاحشة» أو «الفحشاء»، لأنَّ كلَّ لفظة في «القرآن الكريم» لها مقصدها ومرادها في الموضع الذي تكون فيه، وحسب السِّياق الذي تقع فيه، ولا يجوز تكلُّف معنًى يأباه سياقها، أو تحمليها ما لا تحتمل.
ولعل ما ذهبوا إليه من تفسيره قوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}«النِّساء15»، لخير دليل على ذلك، وسأورد بعض ما قاله «أهل التَّفسير» في معانيها، ثمَّ نبيِّن الأرجح الذي ينسجم مع السِّياق من خلال منهجنا في «تفسير القرآن بالقرآن».
فـ«ابن جرير الطَّبريّ» فسَّر «الفاحشة» هنا بأنَّها «الزِّنا»، فقال: «أي يزنين، من نسائكم: وهنَّ محصنات ذوات أزواج، أو غير ذوات أزواج، فاستشهدوا عليهنَّ أربعة منكم، يقول: فاستشهدوا عليهنَّ بما أتين به من الفاحشة أربعة رجال من رجالكم. يعني: من المسلمين. فإن شهدوا عليهنَّ فأمسكوهنَّ في البيوت ، يقول: فاحبسوهنَّ في البيوت حتى يتوفاهنَّ الموت، يقول: حتى يمتن أو يجعل الله لهن سبيلا ، يعني: أو يجعل الله لهنَّ مخرجًا وطريقًا إلى النَّجاة مما أتين به من الفاحشة» انتهى كلامه.
ونقل «الطَّبريُّ» من قال بذلك كـ«مجاهد»، و«ابن عبَّاس»، و«قتادة»، و«عطاء بن أبي رباح»، و«عبد الله بن كثير»، و«السُّدِّي»، و«الضَّحَّاك». وإلى ذلك ذهب «البغويُّ» في تفسيره، فقال: «قوله عزَّ وجلَّ: واللاتي يأتين الفاحشة: يعني: الزِّنا» انتهى كلامه. وجعل «ابن كثير»رواية عن «عكرمة»، و«سعيد بن جبير»، و«الحسن»، و«عطاء الخراسانيّ»، «وأبي صالح»، و«قتادة»، و«زيد بن أسلم»، و«الضَّحَّاك»: «أنَّها منسوخة. وهو أمر متَّفق عليه».
وجعلوا من «الفاحشة» في قوله تعالى: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً }«النّساء16»، يُراد بها «الزِّنا» أيضًا، وهو منسوب إلى «عكرمة»، و«عطاء»، و«الحسن»، و«عبد الله بن كثير»، فقال «ابن كثير»: «نزلت في الرَّجل والمرأة إذا زنيا. وقال «السُّدِّي»: «نزلت في الفتيان قبل أن يتزَّوجوا». وقال «مجاهد»: «نزلت في الرَّجلين إذا فعلا، لا يكني، وكأنَّه يريد اللَّواط، والله أعلم».
وبالعودة إلى «تفسير القرآن بالقرآن» والبحث عن معنى «الفاحشة» وأماكن ورودها في «القرآن الكريم»، نجد أنَّ المراد غير ما ذهبوا إليه من إجماعهم بأنَّ المقصود بها «الزَّنا»، على نحو ما ذكر «أبو حيَّان» في «بحره» عند تفسير آية «النِّساء» السَّابقة فقال: «والفاحشة هنا الزَّنا بإجماع المفسِّرين، وأطلق على الزِّنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح» انتهى كلامه.
إنَّ لفظ «الفاحشة» ورد في «القرآن الكريم» خمس مرات معرفًا بـ«ال»، أوَّلها في سورة «النِّساء» السَّالفة الذِّكر، وثلاث أخريات خاصَّة بما فعله «قوم لوط»، الأولى قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ }«الأعراف80». والثَّانية قوله: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ }«النَّمل54». والثَّالثة قوله: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ }«العنكبوت28».
ولا شكَّ أن ما صحَّ من الأخبار أنَّ «الفاحشة» التي درج عليها «قوم لوط» هي «اللّواط»، أي: إتيان الرِّجال الرِّجال دون النِّساء، وقد ذكرها الله تعالى في موضعين من كتابه، الأولى قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ }«الأعراف81». والثَّانية قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }«النَّمل55». والمقام لا يسمح لذكر اللَّطيفة العجيبة من قوله في آخر الآية الأولى: «قوم مسرفون»، وفي الثَّانية: «قوم تجهلون»، ولكلٍّ منهما دلالة عظيمة في موضعها.
بل إنَّ كثيرًا من «أهل التَّفسير» كـ«الطَّبريّ»، و«ابن كثير»، و«البغويّ»، و«أبو حيَّان» ذهب إلى أنَّ المقصود بـ«الفاحشة» في آيات «قوم لوط» هو إتيان «الذُّكران» بعضهم بعضًا من دون «النِّساء»، وعلَّل «أبو حيَّان» ذلك بكلام طيِّب فقال: «والفاحشة هنا إتيان ذكران الآدميين في الأدبار، ولما كان هذا الفعل معهودًا قبحُهُ ومركوزًا في العقول فحشُهُ أتى معرفًا بالألف واللام» انتهى كلامه.
وإذا ثبت أنَّ «الفاحشة» التي درج عليها «قوم لوط» هي إتيان الرِّجال الرِّجال من دون النِّساء، فهذا يرجِّح أنَّ ما ذهبوا إليه من تفسير قوله تعالى: : {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ}«النِّساء15، بأنَّ المراد من «الفاحشة» «الزَّنا»، وإجماعهم على ذلك ليس بصحيح، يؤيِّد ذلك إضافة إليه أمور؛ منها:
أولاً: أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد ذكر «الزَّنا» في سورة «النُّور» في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }«النُّور2». والمقصود هنا: العلاقة غير الشَّرعيَّة بين الرَّجل والمرأة، وقد اختلفوا في الحدِّ المعاقب لفعل ذلك، وبيَّنا رأينا في مقال سابق بأنْ لا رجم فيه، وإنَّما المراد هو «الجلد » فقط.
ثانيًا: أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أورد أنواع العلاقة الجنسيَّة البشريَّة في كتابه العزيز كافَّة، ولم يترك منها صنفًا، فجاءت على ثلاثة أنواع:
النَّوع الأوَّل: العلاقة بين الرَّجل والمرأة بطريق غير شرعي، وهو ما أظهرته آية «النُّور» السَّابقة، وجاء التَّصريح عن هذه العلاقة في كتاب الله تعالى بلفظ «الزَّنا».
النَّوع الثَّاني: العلاقة بين الرَّجل والرَّجل كما بيَّنته آيات «قوم لوط» وجاء لفظها الصَّريح بـ«الفاحشة»، وليس «الزِّنا»، دلالة منه سبحانه تعالى على تغاير النَّوعين.
النَّوع الثَّالث: العلاقة بين المرأة والمرأة، وهو ما يعرف بـ«السُّحاق»، وهو معنى لم يرتضه «أهل التَّفسير»، دفعهم عنه إجماعهم على أنَّ«الفاحشة» هي «الزِّنا» أينما وردت في «القرآن الكريم»، وقولهم بـ«النَّسخ» في «القرآن»، وإنَّما جاء لفظ «الفاحشة» في النَّوعين الأخيرين؛ لأنَّهما يخرجان عن الطَّبيعة البشريَّة التي خلق الله النَّاس عليها من إتيان الرَّجل المرأة، وهو أقبح من «الزَّنا»، لذلك جاء بلفظ مغاير للفظ «الزَّنا» والله أعلم.
يؤيِّدُ ما ذهبنا إليه أمران:
الأوَّل: ظاهر آية «النِّساء»، حيث جاء الاسم الموصول خاصًّا بـ«النِّساء»، وهو قوله: «واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم»، ثمَّ أتبعها بـ«نون النّسوة» في تتمَّة الآية، والعقوبة المحيطة بهذا الفعل الفاحش، وليس المقام هنا لذكر الخلاف في ذلك.
الثَّاني: الآية التَّالية لآية «النِّساء»، والتي افتتحها الله سبحانه وتعالى بالاسم الموصول «اللَّذان» فقال تعالى: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ}«النِّساء16». وهو اسم يختصُّ به الرِّجال، وجاء في تثنيته للدَّلالة على إتيان الرَّجلِ الرَّجلَ، وليس «الزَّنا» الحاصل بين الرَّجل والمرأة كما زعموا، ويؤكِّد ذلك أيضًا أمران:
الأوَّل: ما أوردناه من الآيات التي وردت فيها لفظ «الفاحشة» وكانت في «قوم لوط».
الثَّاني: ما ذهب إليه بعض «أهل التَّفسير» من أنَّ المراد ما ذكرنا، وهو دليل ينهض على إبطال حجَّة الإجماع التي ادَّعوها، من ذلك ما ذهب إليه «أبو مسلم الأصبهانيّ» من تفسير «الفاحشة» في آية «النِّساء» بأنَّ المراد منها «المساحقة»، وروى ذلك عن «مجاهد»، فقال: «هذه الآية نزلت في النِّساء، والمراد بالفاحشة هنا المساحقة، جعل حدَّهن الحبس إلى أن يمتن أو يتزوجْنَ. ونزلت: واللَّذان يأتيانها منكم في أهل اللواط. والتي في النُّور في الزَّانية والزَّاني» انتهى كلامه. يقول «أبو حيَّان»: «وبناه أبو مسلم على أصل له، وهو يرى أنَّه ليس في القرآن نسخ ولا منسوخ» انتهى كلامه.
وهو أصل نعتمده في منهجنا، إذ إنَّنا لا نرى نسخًا ولا منسوخًا في «القرآن الكريم» لعِلَلٍ جمَّة، وحجج كثيرة، لا يسمح المقام لذكرها هنا. ولعلَّ من أوهى ما رُدَّ به قول «أبي مسلم» بأنَّ ما قاله لم يقله أحدٌ من المفسرين، وهو ردٌّ لا يُقبل في العلم وأهله كما نراه. حتى إنَّ «أبا حيَّان» لم يجد بدًّا من قبوله والأخذ به، وعلَّل ذلك بقوله: «والذي يقتضيه ظاهر اللَّفظ هو قول مجاهد وغيره: أنَّ «اللاتي» مختصٌّ بالنِّساء، وهو عامٌّ، أحصنت، أو لم تحصن، وأنَّ «اللَّذان» مختصٌّ بالذُّكور، وهو عامٌّ في المحصن وغير المحصن، فعقوبة النِّساء الحبس، وعقوبة الرِّجال الأذى، ويكون هاتان الآيتان وآية النُّور قد استوفت أصناف الزّناة، ويؤيد هذا الظَّاهر قوله: من نسائكم، وقوله: منكم. ولا يقال: إنَّ السُّحاق واللَّواط لم يكونا معروفين في العرب ولا في الجاهليَّة؛ لأنَّ ذلك كان موجودًا فيهم، لكنَّه كان قليلا». انتهى كلامه. وذكر أشعارًا في ذلك نتحرَّج من إيرادها.
فـ«الفاحشة» في النِّساء ليس المراد منها «الزَّنا» كما ذهب عامَّة «أهل التَّفسير»، وبَانَ أنَّ ما قرَّروه بأنَّ ذلك إجماعًا، ليس بصحيح، ونشير إلى أنَّ ثمة فرقًا بين «الفاحشة» و«الفحشاء» كما يثبتها لنا «تفسير القرآن بالقرآن»، ليس المقام مقام ذكرها.