مذكرات معتقل سوري سابق بسجون نظام الاسد العلوي الدموي الاجرامي
عبد الجليل كان شيخاً تجاوز الستين حين أدخلوه ساهم النظرات يحُدق فيها دون أن يرانا . يبكي دون دموع . وينزف من كل مسامةٍ منه دون أن يشعر . عارٍ من كل شيء إلا الوطن الذي كان يستر فيه وجعه .
يغطي أعلى صدره ذقنٌ طالت حتى بدت كأنها رايةً تتقطر دماً . وجسداً كأنه خيال من شدة الضعف .
ضربوه بالجنازير حتى تورمت مفاصله وتمزقت أجزاءُه . حين رماه السجان المسخ على الأرض قال :
_ أريد أن تفعلوا هكذا : وضع رجله على وجه الشيخ ثم أمسك لحيتهُ بيده وشدها بكل قوةً مقتلعاً معها ربع ذقنه وراح ينثرها على الأرض . أنتفوا ذقنه وحواجبه وشاربه وشعر جسده كله !
وراحَ يضربنا بكبل الدبابة . وما إن بدأ بذلك حتى دخل أربعة مسوخٍ أخرين وأخذوا يضربوننا معه .
كان بيننا شاب من حمص توفي قبل ساعتين من شدةِ التعذيب . وقف السجان المسخ فوقه وراح يمزق لحم وجهه بالكبل ويصرخ : مابدك تنتف ماهيك مابدك تنتف ؟
_ كان المشهد مقيتاً لدرجة الموت وهو يجلد جثةً كانت روحاً بيننا قبل قليل .
ناداه أحدهم : حسان . هادا ميت! فتوقف وركل الجثة وخرج !
_ الشيخ عبد الجليل لم يكن يردد سوى عبارةً واحدة : الله الشاهد على كل شيء .
خلال دقائق توزع شعر جسده بين أيدي كل من كانت به قوةٌ ليقف على قدميه . وهو يمسح نزف وجههُ بيديه وراح ينتحب .
_ أغلقوا الباب وما إن ذهبوا حتى هرعنا جميعاً حوله كالأطفال . كان لدينا نصف قارورة ماء هي كل مالدينا ونحن عشرون معتقلاً . بللنا منها قميص الشهيد الذي توفى وأعطيناها للشيخ ليمسح بها نزفه . فراح يبتسم ويقول لنا معليش معليش ولادي حيابيبي أنتوا معليش ورحنا نبكي وهو بكى معنا .
ومرر يده التي كم أتمنى لو أني قبّلتها حينها علينا جميعاً . ينظرُ إلينا ويبتسم رغم أنه على ضفاف الموت .
_ بعد ساعة أو أقل عادوا وفتحوا الباب وسحبوه من رجليه . واقتادوه لمجموعةِ حماماتٍ مهجورة كنت أراها أحياناً حين نذهب لبيوت الخلاء . كانوا قد قَسَموا الحمام الواحد الذي هو ضيقٌ بالأصل إلى قسمين بحيث يعجز الإنسان فيه حتى عن الجلوس . ضربوه مرةً أخرى بالجنازير ونحن نسمع أصوات أنينه ثم أوقفوه في منفردة الموت تلك كما كانوا يسمونها .
_ حين خرجنا للحمامات مساء نظرنا بإتجاه منفردته كان دمهُ قد مرَّ من تحت الباب وانساب راسماً درباً طويلاً يمتد من الحزن إلى هتافاتنا حتى صرخاتنا المغدورة . ولم نعد نسمع صراخه وسكن تماماً
في اليوم التالي حين خرجنا للحمامات ووقفنا في الطابور ننتظر بعضنا وكبل الدبابة يأكل منّا صُعقنا جميعاً لرؤيتنا أصابعه ممتدة تحت الباب . كيف وصل للأرض .
_ بعد ثلاثة أيام حين أخرجونا وتقدمنا للأمام راح يتبدى لنا المشهد الذي فتّتَ أرجاء السماء .
كان الشيخ قد ماتَ وهو ساجد . وجسده متخشبٌ بعد الموت في وضعية السجود . ولحم يديه حتى كتفيه مسلوخ .
كسرَ المُسوخُ يديه وهم يحاولون تمديد جثته لكنه لم يفلحوا .
حين عدنا للزنزانة بكينا جميعاً على الشيخ عبد الجليل .
لقد أراد أن يقول لنا أنهم لم يهزموه . أرادوا أن يموت وحيداً منتصباً ليرى العلم الذي علقوه في سقف الغرفة . لكنه عرف أن انتصاره يكمن في أن يسجد ليثبت لهم أنه شيخ إيمان وليس شيخ سلطان . فسلخ جلد يديه وكتفيه وهو يحاول السجود ولحمه يحتك بالجدران الحجرية التي لا يغطيها شيء هناك .
_ بقي أربع عشرة ساعة ملقى أمام الزنزانة التي مات فيها وجسده مكور كضوء يغمره الضياء ككون من إباء وتاريخ من كبرياء . كهتافاتنا نحن الأنقياء .
_ مولاي يا عبد الجليل يا عبد الحي يا ودود يا غياث يا أيها الشهداء الأنبياء صدقوني لم يتغير شيء .
هؤلاء المتسولين لن نسمح لهم أن يبيعوا كبرياءكم . لن نتخلى عن قطرة واحدة من دماءكم . يارفاق العذاب أغيثوني مالذي فعلته حتى تسكنوا ذاكرتي هكذا فأرى من هذا الشعب أطهر وأنقى وأجمل ما فيه . وأسوء وأدنى وأذل من منه .
لم يتغير أي شيء . مازالت الخطوات نحو الموت حياةً قطعها الأباة
سلام عليكم يا أولياء الوطن والنور سلام عليكم دون قبور ………
وسوم: العدد 939