المثالية في أخلاق أهل الصدق
للشعوب قيمٌ وعادات وسلوك ، وتتفاوت مكانة هذه المزايا في حالة الأخذ بها في الحياة الاجتماعية لدى تلك الشعوب . ولعل السمة التي تكتنف تفعيل هذه المزايا ـــــ ونعدها من المزايا لأنها إنسانية على أقل تقدير ــــ إنما هي الأخلاق . فالأخلاق هي المعيار الحقيقي للتعرف على طبيعة هذا الإنسان ، إن كان من ذوي الأخلاق الحسنة فهو ممدوح ، وإن كان من ذوي الأخلاق السيئة فهو مذموم . وهناك معجم للأخلاق الحميدة لايخفى على الأمي ولا على المتعلم . فالمودة والصدق والإيثار هي بعض من مفردات الأخلاق الحسنة ، والحقد والحسد والكبرياء هي من بعض معجم الأخلاق الرذيلة . فإنسان تراه في الصفوف الأولى التي تخدم المجتمع بصدق وإخلاص ومحبة يكون ممن لهم الفضل والاحترام ، وإنسان تراه في الصفوف الأولى لأولي الفساد والشر ، فذاك من المذمومين الذين فقدوا احترام الناس لهم . تلكم ومضة لندخل من خلالها إلى مانريد من مكانة الأخلاق لدى أمتنا ، وأثر تلك الأخلاق في مجتمعاتنا ، ومقدار مساحة السمو والتألق الذي يتمتع به إنساننا الذي يعيش في مجتمعنا لاعلى الجانب الإنساني وحسب ، وإنما على جانب آخر يرقى به على أجنحة الأخلاق الحميدة ، والصفات السامية ، والمعاملات النقية الندية ، إنه الجانب الرباني : ( كونوا ربانيين ) . وهنا نقف بكل اعتزاز ـــ ولا فخر ـــ عند الإرث الأخلاقي المميز لدى أمتنا ، ولعل نقف هنا على فضل الأخلاق في ديننا الإسلامي الحنيف وما فيها من معانٍ ساميات ، ومعاملات أثيرات ، وسُمُوٍّ هيهات أن تجد مثله لدى أي شعب من الشعوب أو أمة من الأمم . بل لاقيمة للمقارنة بين الأخلاق التي جاء بها الوحي أو وجَّـه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وبين أي أخلاق أخرى ، وإن وُجِد منها القليل .
إن خدمة الآخرين ورعاية ضعفائهم ، والتضامن مع المحتاجين والسعي لمساعدتهم ، تجعل أرباب هذه الشمائل من علية القوم ، ومن الذين لهم مكانتهم عند الله تبارك وتعالى ، فالخلق عيال الله وأحب الناس إلى الله أنفعهم لعياله . بل إن الله اختص هؤلاء بالفضل والثواب الجزيل ، و وقاهم من سوء المنقلب ، وجعل لهم العاقبة الكريمة التي يستحقونها . وهناك قيم أخرى يتحلى بها الناس كالمروءة والشهامة والنخوة والكرم ، وهي من عادات العرب قبل الإسلام ، فهي مزايا إنسانية صانها الدين الإسلامي ، ووجه أهلها لِمـا فيها من الخير والتكافل والتعاون بين الناس .
والإنسان الذي أفلس من هذه الأخلاق العاليات ، والصفات المنيفات ، يعيش بلا روح ولا حيوية بل ولا مشاعر تشير إلى إنسانيته على الأقل . الكتب ملأى بالمفاهيم الأخلاقية ، والآيات القرآنية الكريمة ، والأحاديث النبوية الشريفة تتصدر المجلدات التي تحتضنها رفوف المكتبات العامة والخاصة ، وكأنها دفاتر أموات لايريد أحدٌ أن يتملَّى ما فيها من نبض وَأَدَهُ الإهمالُ واللامبالاة ، وربما الصدود المؤلم عن كنوز لاتُقدر بأثمان .
تلك الكنوز تعزز روابط الإخاء الأبدي : ( إنما المؤمنون إخوة ) . ولعل نفس الإنسان تطمئن إن سادت المجتمع روح الإخاء ، فتقل المشاكل وتندثر الأحقاد والبغضاء ، والمؤمن ـــ أصــلا ـــ ليس بذي ضغينة ولا حسد ولا إيذاء للناس . ولا يمكن أن يعتدي المؤمن بلسانه أو يده على غيره من الناس ، وذاك من كمال الإيمان بالله سبحانه ، بل إن المؤمن يسارع في خدمة أرحامه وإخوانه وسائر الناس إذا اقتضت الأمور لمثل هــذا . ( وخير الناس أنفعهم للناس ) .
ولعلنا نعرج هنا على باب مَن يقول ويأمر وينصح ... وهو لايفعل من ذلك شيئا . فهذا يلزمه إصلاح نفسه ، وتقويم أخلاقه ، ويصغي إلى صوت عقله قبل أن أصابه البلهُ . بل أن يسلم أمره لربه ، ويصغي إلى إرشاد نبيه صلى الله عليه وسلم : ( يُؤتى بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتابُ بطنه : ( أمعاؤُه ) فيدور عليها كما يدور الحمار على الرحى ، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون : يافلان مـا لك ! ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيــه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ) . فالكثير ممن تصدوا لحاجات الناس وقضاياهـم ، ولكنهم لم يقوموا بها كما قالوا للناس ، أو كما تم الاتفاق عليه . فمن تصدى لمثل هذه المواقف يجب أن ينجزها ولا يتراخى عن القيام بها لأي سبب أو ظرف . فلا يساير بهذا التراخي على حساب غيره ممن أوكلوا أمورهم إليه . فذاك هدم لحقائق أرادتها الأخلاق السليمة التي أمرنا بها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . وهو تصرف سلبي يطغى على مكارم الأخلاق . ولقد جاء في بعض الأمثال أن الناس لايبكون لأنهم أصبحوا ضعفاء ، بل إنهم يبكون لأنهم كانوا أقوياء ، وهم مَن أماتَ حيويته وأخلاقه التي كان من الواجب أن يعمل بها . وما أجمل قول الشاعر :
وسوم: العدد 952