المرأة في التراث العربي بين خطابين- 10 (متَّكأ التراث!)
ذكرنا في المقال السابق أن فليسوف (المَعَرَّة) إنما شغفَ بعض أدعياء الحداثة الشِّعريَّة المعاصرين، بلا حداثة حضاريَّة، وعُوران الثقافة المجانيَّة، فِكرًا وعقلانيَّةً أُصوليَّة؛ لأنهم إمَّا لا يقرؤون، وإمَّا يقرؤون ولا يفهمون، وإمَّا يقرؤون ويفهمون غير أنَّ دَيدنهم أنْ ينتقوا ما يَغُشُّون به قارئيهم حين يكتبون، مُخْفين البضاعة الرديئة تحت ما ظاهره الصَّلاح. ذلك أنَّ (أبا العلاء المعرِّي) ليس بذلك المفكِّر العقلاني المتحرِّر، الذي يروِّج له بعض المعاصرين، ولا بنصير العقلانيَّة المطلَقة، والحُرِّيَّة الجذريَّة من الأديان، بل هو رجلٌ مضطرب الحال، أوَّلًا، وشاعرٌ، في كلِّ وادٍ يهيم، ثانيًا، وقد ظلَّ أميل إلى العقل التقليدي، والطبيعة الخرافيَّة، ثالثًا، حتى إنَّه ليدعو صراحة- في ما يدعو إليه- إلى "دفن النساء"، كما فصَّلنا الشواهد من قبل.
على أنِّي قد قرأتُ شِعر أبي العلاء، وأعدتُ فيه النظر، وهو جزءٌ من أطروحتي للدكتوراه، فما وجدتُ فيه ما يصحُّ الاستدلال به عِلميًّا على عقيدةٍ منابذةٍ للدِّين- كما يدَّعي ذوو الأهواء، على تباين أهوائهم، قديمًا وحديثًا- هذا إنْ صحَّ الاستدلال بالشِّعر على مثل هذه الأمور القلبيَّة، أصلًا. فما في شِعره لا يعدو النقد لسلوك معاصريه، من تفشِّي النِّفاق فيهم، والظُّلم، واتِّباع الشَّهوات، وفساد رجال الدِّين، من زبانية الفاطميِّين، والصوفيَّة، ونحو أولئك ممَّن كابد المعرِّي استبدادهم بالسُّلْطة الثقافيَّة أو عرف ذلك عنهم. ومَن شاء الشواهد، فليرجع مثلًا إلى لزوميَّته التائيَّة، ومنها:
ألا تتَّقونَ اللهَ رَهْطَ مُسَلِّمٍ ::: فقد جُرْتُمُ في طاعةِ الشَّهَواتِ
ولا تَتْبَعُوا الشَّيطانَ في خُطواتهِ ::: فكَمْ فيكمُ مِن تابعِ الخُطواتِ
...
تَهاوَنْتُمُ بالذِّكرِ لمَّا أتاكُمُ ::: ولم تَحْفِلُوا بالصَّومِ والصَّلَواتِ(1)
...إلى آخرها.
هذا هو المعرِّي. ولا يستقيم ما يركَّب عليه من دعاوَى ملفَّقة، لا تعبِّر إلَّا عن توجُّهات أصحابها، الباحثين عن متكأٍ تراثيٍّ ما، يؤثِّلون على مداميكه مذاهبهم. أمَّا التأوُّل الأُصوليُّ، فحدِّث ولا حرج عن شطحه ونطحه. وهو تأوُّلٌ لا يَصدُر إلَّا عن الفئتين اللتين عابهما المعرِّي نفسه، وهما: ذو دِينٍ متزمِّت، بلا عقلٍ ولا بصر، أو دعيُّ عقلانيَّةٍ وليبراليَّة، إنَّما يفتِّش رغبويًّا في التُّراث عمَّا يَطرَب له؛ ليؤيِّد به عقيدته هو، ذات الأُصوليَّة العوراء البديلة. الفئة الأُولى تكفِّر أبا العلاء؛ لأنَّ ديدنها تكفير مَن خالفها، أو لم تفهمه، والفئة الأُخرى تمجِّده؛ لأنَّ ديدنها تمجيد من وافقها الهوى، وإنْ بظاهرٍ من القول، تنتقيه انتقاءً، وتزيِّفه تزييفًا. لسان حال الأُولى: "كافرٌ.. عليه من الله ما يستحق!"، ولسان حال الأخرى: "كافرٌ.. ما أروعه!"(2)
قد يقول قائل: وأين أنت عن قول المعرِّي(3):
إِنَّ الشَّرائِعَ أَلْقَتْ بَيْـنَـنـا إِحَنًا ::: وأَوْدَعَـتْـنا أَفانِـيْـنَ العَداواتِ
وهَل أُبِيْحَتْ نِساءُ القَومِ عَن عُرُضٍ ::: لِلعُـرْبِ إِلَّا بِـأَحكامِ النُّبُـوَّاتِ؟
والحقُّ أنَّ مثل هذا ليس بصريحٍ في عقيدة الرجل، ولا يمكن القطع بأنه في ثلب الشرائع وأحكام النُّبُوَّات، لا في ثلب مطبِّقيها، والمتعدِّين حدودها باسمها. ومهما يكن من شيء، فنحن أمام نصٍّ شِعريٍّ، حمَّال أوجهٍ من التأويل، ومزاج شاعرٍ متقلِّب، مضطرب الأطوار، قد تجد فيه القول ونقيضه، ربما في النصِّ الواحد. وهذه طبيعة الشِّعر. ثمَّ ليكن أنَّه كان رُبوبيًّا، مثلًا، بناءً على ما قد تَستشِفُّ من بعض شِعره، فهذا لا يعنينا، وليس بموضوعنا هاهنا. ولقد وصف (ناصر خسرو القبادياني)(4) المعرِّيَّ خلال زيارته إلى (حلب)، عام 438هـ، بأنه رجلٌ كفيف، غنيٌّ جِدًّا، له عبيدٌ وعمَّالٌ طوع أمره. ومع ذلك كان زاهدًا، يلبس ملابس الصوفيَّة الخشن، ولا يزيد في طعامه عن نصف رغيف من الشعير، صائمًا نهاره قائمًا ليله. وذكر أنَّه كان يدير أمور المدينة من خلال عمَّاله. وأنه يجتمع إليه جمهور غفير من المريدين والطلبة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. غير أنه قد أشار إلى اتهامه بشأن كتابه "الفصول الغايات"، وما زُعِم من أنَّه إنَّما أراد به معارضة "القرآن".
وخلاصة القول: إنَّ ما نلفت النظر إليه هو ذلك العَوَر الثقافي الإديولوجي، الذي يجعل المرءَ يُبرِز ما يُعجبه، فيمجِّد صاحبه لأجله، مغمضًا عينه الأخرى عن موبقاتٍ فكريَّةٍ وأخلاقيَّةٍ، صريحة الخطاب، ومكرَّرة، غير قابلة للتخريج على غير ظاهرها- كموقف المعرِّي الداعي إلى وأد المرأة- فإذا أنت ترى المثقَّف من هؤلاء ما يفتأ يَتعاور عن تلك الجوانب المظلمة أو يتعامَى؛ لكي يتَّخذ نموذجه إيقونةً تراثيَّةً صالحةً لإسناد ظَهره، وإنْ لم يكن فيها من مستنَدٍ يُركَن إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (1992)، شرح اللُّزوميَّات، تحقيق: منير المدني وزينب القوصي ووفاء الأعصر وسيِّدة حامد، بإشراف ومراجعة: حسين نصَّار، (القاهرة: الهيئة المِصْريَّة العامَّة للكتاب)، 1: 266- 267/ 1- 2، 13.
(2) من شاء تتبع ما زُيِّف على (أبي العلاء) من تُهَم قديمة، بل ما نُحِل من شِعر، لمآرب مختلفة، فليطالع بحث هذا، مثلًا، لدَى (ضيف، شوقي، (1990)، عصر الدول والإمارات- الشام، (القاهرة: دار المعارف)، 172- 178). محيلًا إلى كتابه الآخر "فصول في الشعر ونقده".
(3) شرح اللُّزوميَّات، 1: 271/ 9- 10.
(4) انظر: (1983)، سفرنامة: رحلة ناصر خسرو القبادياني، ترجمة: أحمد خالد البدلي، (الرياض: عمادة شؤون المكتبات- جامعة الملك سعود)، 40- 42. ومع هذا فما ينفكُّ التشكيك محتدمًا من أرباب "التراث الروائي/ السماعي" في شهادة صاحب "سفرنامة"، الحيَّة والمباشرة من واقع المجتمع الحلبي عام 438هـ ، وما نقلته حول (المعرِّي)، عن قُربٍ ومشاهدة. وهذا يدلُّ على عقليَّات تأبى إلَّا أن تجترَّ حكايات القيل والقال ممَّا توارثته عن كتبها الصفراء. (انظر مثلًا: ضيف، م.ن، 168).
(*) هذا المقال جزء عاشر من ورقة بحثٍ قُدِّمت فكرتها في محاضرةٍ حِواريَّةٍ في (الصالون الثقافي بنادي جُدَّة الأدبي الثقافي)، مساء الأحد 28 فبراير 2021، بإدارة: (الشاعرة جواهر حسن القرشي). للمشاهدة على موقع "اليوتيوب": https://bit.ly/3m06d0e
وسوم: العدد 952