من الحكايات الأُسطوريَّة في جنوب الجزيرة العَرَبيَّة-4 (الأصول والهجرات والتلقِّي: مقاربات مقارنة)

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

مساقات

رأينا في المساق السابق النموذج الأوَّل من تراثنا القصصي الشَّعبي، وهو «أُسطورة امْحَمْ عُقَيْسْتَاء»، المعروفة في جبال (فَيْفاء). ووصلنا في سرد القِصَّة إلى عودة بطل الأُسطورة إلى بيته، وحضوره عُرس زوجته، بعد أن غاب سنوات في عالم المجهول بين الأرض والسماء، بحثًا عن أخيه المغدور. قال الراوي:

...وفيما كان الرِّجال يُعِدُّون وليمة العَشاء، كانت السماء «ما تزال تَسُحُّ ما تَسُحُّ من دموعِها الثِّقال».

- «ما أشبه مطر هذه الليلة بليالي امْحَمْ عُقَيْسْتَاء‍!» (قال أحدهم.. واتَّفق مع رأيه الآخرون، فقد كانت ليالي (امْحَمْ عُقَيْسْتَاء) ‍لياليَ أمطارٍ وغيثٍ وبَرَكَة). والرجل يُصغي إلى كلامهم من زاويةٍ في المكان. ثمَّ حينما حان إنزال «بُرَم» العَشاء عجز مجموع الرجال الحاضرين عن إنزال البُرَم من فوق الأثافي.

- «أعطوني «امْقاتَّة» وأنا أُنزِلها لكم!» (قال امْحَمْ عُقَيْسْتَاء‍). والقاتَّة، في لهجتهم: ما يلتصق بقَعْر القِدْر من طعام.

التفتُوا إلى صوته، متضاحكين من بؤس هيئته وظرفه.. لكنَّهم وافقوا أن يعطوه فرصةً ليتفكَّهوا بطرافة الموقف. وَقَف الرجل ومدَّ يده متناولًا من مكانٍ ما، قد خَبِرَه، أَوَاقِيَ ليديه، يتوقَّى بها حرارة القدور. فدهشوا، وأخذوا يتلافتون: «كيف لهذا الغريب أن يعرف مكان الأواقي المخصوص من البيت؟!»

وإذا به يحمل البُرَم واحدةً تِلْوَ الأخرى فينـزلها. فزاد دَهَشُهم، وأدركوا أنَّ في الأمر سرًّا.

ثمَّ لمَّا فَتَحوا القدور، إذا باللَّحم كلِّه في كلِّ قِدْرٍ قد التصقَ بقَعْره، أي قد صار كلُّه «قاتَّة»؛ وهو ما كان طلبَه الرجل مقابل مساعدته إيَّاهم. عندها تأكَّد لهم أنَّ الرجل ما هو إلَّا (امْحَمْ عُقَيْسْتَاء).. وها قد عاد. فانصرفوا مكسوفي البال. ولذا لم يتمَّ العرس.

وبعد أن استقرَّ (امْحَمْ عُقَيْسْتَاء) في أهله، عَمِل على تنفيذ وصيَّة أخيه: أوَّلًا، بمكافأة الغُرابَين؛ فذبح لهما ثوره.

ثمَّ واجه قَتَلَة أخيه، مطالِبًا إيَّاهم بدفع الدِّيَة، كما أوصاه أخوه. فاعترفوا بجريمة القتل، واتَّفقوا معه على تسليم الدِّيَة إليه منجَّمة. واستمرُّوا على ذلك، حتى لم يبق إلَّا قِسْطٌ أخير. فلمَّا ذهب ليتقاضاه من أحدهم، أبدى له العُسْر، وعَرَضَ عليه أن يختار أحد فَرِيْرَين- أي خروفَين- كانا في مربطٍ لديه، مقابِل ما تبقَّى من دِيَة. وافق (امْحَمْ عُقَيْسْتَاء). ومن ثَمَّ أَخَذَ بالفَرِيْر يجرُّه بصعوبةٍ، والرجل من ورائه يدفعه بقُوَّة، وهو ينازعهما الحبل لا يريد الحراك. فيما الفَرِيْر الآخَر ما يَفْتُر عن ثغائه، وهو «يُناتِع» محاوِلًا الفكاك من رباطه واللحاق بأخيه. وبعد لَأْيٍ، قال صاحبُ الفَرِيْر لامْحَمْ عُقَيْسْتَاء:

- «أَ مَحَه، هكذا يبدو أن لا أنت ستستفيد من فَرِيْرِك ولا أنا سأستفيد من فَرِيْري، فهما أَخَوان تَرَبَّيَا معًا، وكما ترى لا يمكن أن يعيشا منفصلَين. فلعلَّك تُعفينا من بقيَّة هذه الدِّيَة أو تُنظِرنا فيها إلى مَيْسَرة!»

ساعتئذ تذكَّر (امْحَمْ عُقَيْسْتَاء) أخاه الذي قتلوه، فجُنَّ جُنونه، واستلَّ خنجره وانهال على الرجل يُوسعه طعنًا، وهو يصيح به:

- «أَ وَأَسْكُتُ أنا عن فراق أخي، وهذا الحيوان لا يسكت عن فراق أخيه؟‍!»

هذه الأُسطورة، على بساطتها، مليئةٌ بالرموز الاجتماعيَّة والميثولوجيَّة. ولا تخفَى القِيَم الدِّينيَّة، والاجتماعيَّة، والأخلاقيَّة، التي كانت تبثُّها في المتلقِّين، ولا سيما أنَّها كانت تُروَى للناشئة، بوصفها أدبًا تثقيفيًّا شعبيًّا، يؤدِّي وظيفتَه التعليميَّة، على نحوٍ غير مباشر، كما هي الحال في طبيعة الأدب عمومًا ووظيفته.

على أنَّها- إلى ذلك- تثير الكثير من الأسئلة. وممَّا تثيره: أُسطورةُ الطيران، وهي أُسطورةٌ إنسانيَّةٌ قديمة. نجدها لدَى (اليونان)، مثلًا، في قِصَّة (إيكاروس Icarus)، الذي طار، فأذابت حرارةُ الشمس الشمعَ الذي ثبت به جناحه، وسقطَ في البحر. وكذا يُذكِّر طيران (امْحَمْ عُقَيْسْتَاء) بقصص طيران شبيهة، كقِصَّة (عبَّاس بن فرناس)، عند العرب الأندلسيِّين.

ويُلحَظ التناصُّ بين هذه القِصَّة الأُسطورية وقصص وأساطير أخرى متعدِّدة. غير أنَّ لها علاقةً- على وجه الخصوص- أكثر تفصيلًا، بأُسطورتين قديمتين، خُلِّدتا من خلال ملحمتين شهيرتين، هما: (ملحمة كَلْكَامش) و(ملحمة الأوديسة).

وهنا تتبادر الأسئلة: أ هي مجرَّد توارداتٍ عَرَضيَّةٍ تلك التي بدت بين أُسطورة امْحَمْ عُقَيْسْتَاء وأُسطورتَي (كَلْكَامش) و(أوديسيوس)- اللتين كوَّنتا خامَ اللَّبِنَتَين الأُوْلَيَين لملحمتَيهما الشِّعريَّتَين- أم تدلُّ على علاقاتٍ تاريخيَّةٍ بين هذه الأساطير؟ إذ الأمر هنا ليس متعلِّقًا بما يمكن أن يُعْزَى إلى نماذج إنسانيَّة عُليا، مخبوءة في السلوك البَشري (Archetypes)، فحسب، لكنَّه متعلِّقٌ أيضًا بتشابهات تفصيليَّة لافتة.

لقد رصد الدارسون تأثُّر (اليونان) و(الرومان) بملحمة (كَلْكَامش)، فلاحَظوا التشابه بينها وقِصَّة (أوديسيوس)، كما صُوِّرت في «الأوديسة». ولكن ماذا عن أُسطورة (امْحَمْ عُقَيْسْتَاء)، التي تتداخل مع تلكما الأُسطورتين معًا؟ وأيُّ الأساطير الثلاث هي الأصل وأيُّها الفرع؟ أم أنَّ لها جميعًا أصلًا مشتركًا أقدم؟

أسئلةٌ رهينةٌ إجاباتها بمزيدٍ من البحث. غير أنَّ ظاهرة التشابه بين تُراثات الشعوب وأساطيرهم المهاجرة ليست- على كلِّ حالٍ- بالأمر النادر أو الغريب، ما دامت التجربة البشريَّة قد مرَّت بالطريق نفسها، وبالأسئلة عينها. إلَّا أنَّ التعالُق بين هذه الأساطير يلفتنا إلى أنَّ كثيرًا من تُراث الأُمم الأُخرى، المدوَّنةِ أجناسُه الأدبيَّة، لا مزيَّةَ له، بالضرورة، على تُراثنا الشَّعبيِّ الشفهيِّ- غير المحفوظ بالتدوين- ولا تميُّز له، من حيث الطاقة المتخيِّلة؛ وأنَّ الذات الإنسانيَّة المتسائلة، الساردة، قائمةٌ في كلِّ شعبٍ، وإنْ لم تحظ مأثوراتُه بالحفظ المكتوب والدَّرس والتطوير.

وهذه نتيجةٌ تشير إلى خلاف ما كان يزعمه بعض المستشرقين: من أنَّ العَرَب، كجميع الأُمم الساميَّة، لا يعرفون من الأجناس الأدبيَّة تلك القِصص المركَّبة، وأنَّ طبيعة الساميِّ غير طبيعة الأُمم الأُخرى، من حيث الخيال والتصوُّر، ونحو تلك من المزاعم العتيقة التي روَّج لها (إرنست رِنان Ernest Renan ، -1892)، على سبيل المثال، وأضرابه، ثمَّ ردَّدها بعض نُقَّادنا العَرَب في القرن العشرين. وفي المساق التالي مناقشة النموذج الآخَر من الحكايات الأُسطوريَّة في جنوب الجزيرة العربيَّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) هذا المقال جزء رابع من ورقة بحثٍ حِواريَّةٍ قُدِّم موجزها في (نادي جازان الأدبي)، مساء الأربعاء 3 مارس 2021. للمشاهدة على موقع "يوتيوب": https://bit.ly/3j1diLd

وسوم: العدد 959