ذكرياتي مع الدكتور "عبد الحليم عويس"
صحبتهُ أكثر من عشرين عاماً .. ولم نتفق على شيء!
عشرونَ عاماً ونحنُ في صراع محتدم، وجدال لمْ ينته!
فمنذ عرفته ونحنُ جد مُختلفيْن في الأصول والفروع ... فقد اختلفتُ معه في الأدب، والتاريخ، والفلسفة، والحداثة والأصالة، والحياة والموت أيضاً!
رجلٌ نصّبَ نفسه "محامياً" لبني أُميّة، بينما أنا حامي حمَى خصومهم!
رجلٌ أوقفَ حياته على مخطوطات الطبري"، والذهبي، وابن كثير، وأنا بخلاف ذلك!
رجل لا يُضيّع دقيقةً من عُمره، بينما أنا أتفنّن في تبديد الوقت!
رجل لا يُخطئ في النحو أبداً، بينما أنا عدوّ النحو والصرف!
هو مُتيّم بابن حزم، وأنا لا أستريح للمذهب الظاهري!
هو شغوفٌ بالرافعي، وأنا عاشق لغريمه "العقّاد" رضيَ اللهُ عنه!
هو رجل مُنظّم في كل شيء ... وأنا أُحبّ الفوضى، وأكره النظام!
لقد اصطحبني كثيراً إلى قريته بالمحلة الكبرى ... فرأيتُ من دأبه ونشاطه وهمّته وكرمه ما لم أعهده عند سواه؛ فقد كان يجمع الشبابَ ويلقي عليهم الدروس، ويبعث الأملَ في نفوسهم، ويصلّي بهم التراويح، ويتناول معهم الطعام، ويقضي حوائجهم، ويؤثرهم على نفسه!
* * *
في أول محاضرة رأيته فيها، كان يتحدّث عن (ابن خلدون) مُتباهياً بعبقريته، ومتانة تفكيره؛ فقاطعته دونَ استئذان، فلوّح قائلاً: لا تتكلّم! ثمّ واصلَ حديثه، فقاطعته مرةً ثانية؛ فانتفضَ قائلاً: لا تقاطعني! ثمّ استطرد في محاضرته، فلم يُعجبني رأيه، فقاطعته مرةً ثالثة؛ فزمجر قائلاً: لمْ أسمح لك بالكلام!!
بعد انتهاء المحاضرة؛ الْتفَّ حوله جمعٌ كبير من تلامذته ومُريديه، وسألهم مّن هذا المجادل الذي كان يُقاطعني؟ فأحضروني إليه، وسألني مغتاظاً: ما هذا الشغَب الذي أحدثته أثناء المحاضرة؟ فقلتُ له: لأنّ ابن خلدون ليس كما تقول، فقد خلَطَ الأوراق، وأساء إلى العرب!
فهزّ رأسه –وكأنَّ كلامي نبّهه إلى شيء ما- ثمّ سألني: من أينَ أنت؟ وماذا تعمل؟!
بعدها اصطحبني إلى منزله، وهنالكَ قدّمَ واجبَ الضيافة، ثمّ أهداني "مقدّمة ابن خلدون" وطالبني أن أقرأها جيداً ... وقبل مغادرتي له؛ أهداني (بالطو) مصنوع من الكتّان الخشن! فقلتُ له: ما المناسبة؟ قال: لأنّ "الصعايدة" يَخشونَ البرد أكثر من خشيتهم من الموت!
منذ تلك اللحظة؛ صرنا أصدقاء أوفياء! بلْ صار أستاذي! بلْ والدي!
بلْ أستطيع القول: إنه كان نقطة تحوّل كبيرة في حياتي ... فقد أغرقني بالكُتُب، وشغل وقتي بالقراءة، وأطلعني على أمور عجيبة، وعرّفني على صفوة العلماء والمفكّرين!
* * *
ما أعجب هذا الرجل! فقد كان يعمل للدين والدنيا في وقت واحد، لا تضيع ساعةٌ من عمره دون فائدة، بلْ كان يقوم بأدوار عديدة في اللحظة الواحدة؛ ففي الوقت الذي يتناول فيه الطعام؛ تراه يستمع القرآن، ويتصفّح في كتاب، ويُملي مَن بجواره ما جادتْ به قريحته، ويطلب أن يشتروا إليه كذا وكذا، ويرد على الهاتف، ويحزم حقائبه، ويستعد للسفر!
ما أجمل هذا الرجل! فمن الصعب أن تجده بمفرده، بلْ كان بيته أشبه بمقارات الأحزاب، بلْ كان منزله جامعةً لمختلف المعارف، وتجتمع عنده مختلف الجنسيات واللغات والمذاهب ... فقد كان يجمع العربَ والأفارقة والآسيويين على سجّادة واحدة، ويتناول الطعام مع الهنود والأتراك واليمنيين والعراقيين والجزائريين!
ما أعظم هذا الرجل! عاش جوّالاً في أرض الله؛ مهموماً بالإسلام وقضايا المسلمين، يؤلّف بين القلوب، ويجمع الفرقاء، ويُصلح بين المتخاصمين... مُحتسباً سعيه وجهاده عند الله!
قرأ آلاف المراجع والمخطوطات، وألّف أروع الكُتب، وكتبَ أجمل المقالات ... ولوْ جُمعتْ تلك المقالات لصارت مكتبةً من المكتبات النادرة!
لقد زار العديد من الدول والبلدان، وتعرف على الساسة وكبار المسئولين، وطاف القرى والنجوع النائية، وخالط الشبابَ والكهول، وأكل مع العامة والأُميّين، وجلس مع البسطاء والباعة الجائلين، واستمع لشكواهم وأنّاتهم، وتألّم لمعاناتهم!
* * *
بعد مرور سنوات وسنوات على رحيله؛ لديّ ألف حكاية وحكاية مع هذا العبقريّ الفذ -نظراً لطول صداقتنا- أذكرُ منها: أنني كنتُ معه في السيارة –في ليلة من ليالي الشتاء الزمهرير- وكنّا نستمع لسورة "آل عمران" فأوقفَ السيارةَ فجأة، وسألني: لماذا قال الحقُّ في هذه السورة (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ..)، بينما قال في سورة الحديد: (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض)؟ فلم أتوصّل إلى الإجابة!
وقد سألني –ذات مرة- لماذ تكرَّرت صفة(حكيمٌ عليم) في سورة الأنعام، بينما تكرَّرت صفة (عليمٌ حكيم) في سورة يوسف؟ فلم أستطع أنْ أُجبه بشيء ... ومرت الأيام؛ وقد أدركتُ الإجابة على هذه التساؤلات عندما أكرمني اللهُ بتأليف كتاب (لغة القرآن)!! لذا؛ فقد عاهدتُ نفسي أنْ أُسمعه الإجابةَ عند أول زيارة لقبره الطاهر –طيّبَ اللهُ ثراه!
(حكاية ثانية): حدثتْ جفوةٌ بيني وبينه –رحمه الله- بسبب عنادي الشديد، ومخالفتي لرأيه في أمور خطيرة؛ ولمّا جمعتنا –يا جرير المجامعُ- اقتربَ منّي، ووضع يده على كتفي برفق، وتبسّم، وقال: لماذا لا تدعوني لأزور بلدتكم، فأنا أُحبّ الصعيد ... لأنّ جدّي الأكبر من أعماق الصعيد، وفي رواية ينقصها السند: إنّ أحد أجدادي دُفنَ في الصعيد الجوّاني!
(حكاية ثالثة): عندما اضطلع –يرحمه الله- بإنشاء سلسلة كُتب بعنوان (مُدن إسلامية) وطلب من الشباب أن يختاروا ما يشاءون من المدن ليكتبوا عنها ... فاخترتُ مدينة (قوص)، فسألني: هل "قوص" مثل: بغداد، ودمشق، وقرطبة، والقيروان، وغيرها من المدن التاريخية؟ فقلتُ له على الفور: نعم، وفي رواية لم أقف على صحتها تقول: إنها من البقاع التي تُشدّ إليها الرحال ... فأخذته نوبةٌ من الضحك المتواصل؛ ممّا جعله يُوقف السيارة فجأة، ويتوقّف عن القيادة!!
في الختام؛ أقول: لقد ثبتَ لي أنّ جميع الآراء التي خالفتُ فيها أستاذنا الجليل (عبد الحليم عويس) كنتُ فيها مُخطئاً، وكان رأيه صائباً!
أخيراً؛ لا أجد ما أقوله، سوى أن أتضرّع إلى المولى –سبحانه- قائلاً: اللهمّ أنزل سحائب رحمتك على روح شيخنا وسيّدنا (عبد الحليم عويس) وأنزله منازل الصديقين والشهداء، وأسكنه في جنّة عالية قطوفها دانية ..!!
وسوم: العدد 959