صرخات الحرية!
يَستهِل من يخرج من رحم أمه باكيا بصوت مسموع، وكأنه بخروجه من بطن أمه إلى دنيا الناس يشعر بالخطر على نفسه من لصوص الحرية الذين لا يكُفّون عن محاولة استراق حريات الناس واستلاب كرامتهم، فهي أول صرخة يعلن بها المرء عن حريته ويَجهر بخوفه من مصادرة كرامته!
إن هذه الصرخة هي إيذان بأن الله تعالى خلق كل الناس أحرارا كرماء، ولا يدينون بالعبودية في فطرتهم الوهبية إلا لمن خلقهم، فهو وحده تعالى من يستحق اتباع أمره، كما قال تعالى: {ألا له الخَلْق والأمر}، بمعنى أنه لا عبادة لمن لم يَخلق، ومن ثم فإن الإنسان كائن حر ولا تكتمل إنسانيته من غير تمتعه بالحرية وتحليه بالكرامة، لكنه يمتلك القابلية للتكيف مع العبودية نتيجة تأثيرات الفجور الترابي، كما قال عزّ من قائل: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}؛ مما يوجب على الإنسان التوقي من محاولات النيل من عزته وآدميته.
ومن يعرف قيم هذا الدين العقدية والأخلاقية ومقاصده التشريعية والشرائعية سيدرك بجلاء أن الحرية فطرة أصيلة في الإنسان، فهي علامة إنسانيته المتميزة وبرهان كرامته العزيزة، وبها فضّل الله الناس على سائر المخلوقات؛ ولذلك فقد أطلق عمر بن الخطاب صرخته المدوية في سمع الزمان، عندما سمع بأن هناك من انتقص قليلا من كرامة واحد من رعيته وهو قبطي جاء من أقصى مصر يسعى شاكيا ابن والي مصر الذي لطمه لأنه سبقه أثناء اللعب، فأعلن الخليفة عمر حالة الطوارئ واستدعى الوالي وابنه إليه على عجل، وقابلهما بوجه عابس وقال لهما بلسان غاضب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"؟!
وكان عمر نفسه يقيم اختبارات لشعبه ليرى مدى قوة الجهاز المناعي للمجتمع، وهل ما زال الناس قادرين على رفع أصواتهم بشجاعة أمام أي وضع أعوج، وكم كان يفرح حينما يصدع الناس بكلمة الحق ولا يخشون في الله لومة لائم، وظل يشجعهم على معارضته إن أخطأ، وعلى تقويمه إن اعوجّ ولو بحدّ سيوفهم، حتى أنه قال لرعيته: "لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها"!
وتخبرنا صرخة الوليد بأن على الإنسان الكريم أن يعضّ على حريته بالنواجذ، وذلك بأن يبقى محتفظا بصرخات الاعتراض على كل وضع أعوج، وأن يرفع أصوات الاحتجاج ضد كل أمر تنكره الفطرة السوية، وأن يرفض التكيف مع أي وضع ينتقص من حريته أو ينال من كرامته، وأن يأبى الخنوع والاستسلام لأي مخلوق؛ فإن من لوازم الإيمان بأنه لا إله إلا الله، عدم قبول العبودية لغير الله بأي صورة من الصور!
ورغم أن طريق الحرية محفوفة بالمكاره، بينما حُفت حظائر العبودية بالشهوات، إلا أن من ذاق حلاوة الحرية عاش في أكناف نعيم معنوي لا يمكن وصفه، ومن ثم فقد تأهّل لدخول فردوس السماوات التي لا يدخلها إلا الأباة الأحرار الذين لم تتعفر جباههم إلا في محاريب العبودية لخالقهم، ولم يذرفوا دموع الانكسار إلا بين يدي ربهم!
ومن المعلوم أن حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن من كان آخر كلامه من الدنيا (لا إله إلا الله) دخل الجنة، وهو أمر غير هيّن؛ إذ لا يستطيع أن ينطق هذه العبارة ساعة الغرغرة وخروج الروح إلا من كانت هذه الشهادة هي لسان حاله في حياته، فلم يطأطئ رأسه لكائن رغباً أو رهباً، ولم يُحنِ ظهره لمخلوق حتى يمتطيه، ولم يذل نفسه لرغبة أو ينكسر أمام شهوة، مهما كانت النفس أمّارة والشيطان موسوسا!
وبالطبع فإن صرخات الحرية ليست بالضرورة كصرخة الوليد الذي يستهل حياته؛ حيث تأخذ صرخات الاحتجاج صورا هادئة وناضجة وأكثر تنظيما وهدوءً، لكنها في كل الأحوال لا تسمح بأن يتم كتمها مقابل نزوة عابرة أو حتى مصلحة مادية دائمة، وفرسان الحرية هم من يجيدون تحويل أصواتهم إلى أسواط يجلدون بها ظهور الظالمين، ويجعلون من حبالهم الصوتية حبالاً لشنق الطغيان والفرعنة بكل ما يملكون من قوة وحيلة.
وسوم: العدد 960