في تكوين العقل السياسي
ولن يكون الإنسان سياسيا، حتى يدرك في كل أمر محاسنه ومساوئه في وقت معا. وبلغة الشريعة ما يترتب عليه من مصالح ومفاسد. ثم يعمل عقله في الموازنة. ثم يقرّب نفسه وقومه من الأجمل والأصلح ويبعد عنهم ما عدا ذلك. والرجل الذي ترونه لا يرى الأمر إلا من خرم إبرته فيرى فيما يحب ويشتهي جمالا وكمالا أو صلاحا محضا، وفيما يكره قبحا أو نقصا أو فسادا محضا؛ ليس من أهل الرأي الذين يقال فيهم:
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ..وهؤلاء الذين كثرت الدعوة في القرآن الكريم، إلى الإعراض عنهم، واستنكر كتاب ربنا الاستماع لأقوالهم.
وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر ، والخمر أم الخبائث، المذهبة للعقل، علمه ربه أن يجيب (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) فوازن ورجح وحكم بحكمة بالغة.
ومنهج القرآن في هذه الآية تعليم منهج. وتعليم المنهج أبعد مدى من تعليم حكم الواقعة العابرة المجردة . تعليم منهج في التفكير والتقويم وإصدار الأحكام. ولعل كاتبا في هذا العصر لو كتب في معرض حديث صحيح أن للخمر بعض الفوائد أو المنافع ، لثارت عليه أعشاش من الزنابير!!
فمهما وجدت الرجل قد أغلق عليه حبُّه أو كرهُه، أقطار َرؤيته فاعلم أنه ليس من أهل الرأي والمشورة، الذين يُلجأ إليهم، ويستنار برأيهم، ويعتد بقولهم ؛بل ويعتبر قوله "لغا" أشبه "بزقزقة عصفور"
وكانت العرب الأمة التي اختارها الله لحمل رسالته تمتلك هذا ألأفق المفتوح انفتاح باديتهم، وكلمة البادية تعني التي تبدي، فلا تلتف ولا تخفي..
وكانوا إذا سئل أحدهم عن وصف أمر قال : أصفه لك بمدح أو ذم ؟!! وفي هذا السؤال العلم كل العلم. أن الأشياء في موازين الحياة ليست بيضاء أو سوداء، حتى الخمر قال ربنا فيها "فيها ..وفيها" فكل قول وفعل وموقف في أطره الزمانية ..والمكانية ..والاجتماعية ..والاقتصادية ..قابل لشمول التقويم، ثم لتلخيص الاعتبار.
وسئل طفل أعرابي وقد وضع بين يديه كأسُ ماء، وهو حديث عهد بالزجاج ؛ فقيل له: صف لنا هذه الكأس. فلم يقف أمامها مشدوها مذهولا فاغرا فاه، بل سأل أصفها بمدح أو بذم؟؟ قالوا بمدح، قال تريك القذى ، ولا تقبل الأذى. فهذه الكأس لو كان فيها قذى أو أذى، والقذى الشيء اليسير من قش أو تراب ، لأرتك إياه قبل أن تشرب، فهي بهذا ليست كالقربة أو الشربة الفخار التي إذا عببت منها لم تدر ما فيها، وفقست ضفدع في شربة أحدهم وكبرت فيها، وهو يشرب عنها ولا يدري ..!!
قالوا صفها بمدح، قال: تريك القذى ولا تقبل الأذى. قالوا صفها بذم: قال سريع كسرها، بطيء جبرها ..فقال واستوفى.
وقيل لآخر من أطفال العرب، صف هذه النخلة، والنخلة عمة العربي، ومغذيته وظئره ، فقال: بمدح أو بذم؟؟ قالوا بمدح: قال: حلو جناها ، باسق منتهاها، ناضر أعلاها.. قالوا فبذم|، قال صعبة المرتقى، بعيدة المجتنى، محفوفة بالأذى ..
وهكذا هو العقل العملي في النظر إلى الأمور، وفي حسن التقدير والتقويم. قبل إطلاق الأحكام. هذا العقل الذي باتوا يسمونه في هذا العصر "العقل الناقد " "العقل الناقد" ليس هو العقل الذي يقدح ويتهم ويقذف ويرفض، بل هو العقل الذي يتفحص ويختبر قبل أن يرد أو أن يقبل.
من حقك أن يكون لك رأي في السياسة والاجتماع والاقتصاد والفن ...ورأي الإنسان قطعة من عقله، وطريقة عرضه تعبير عن ذوقه...
فاختر لنفسك ما يحلو
وسوم: العدد 964