سورية .. دماء تسفك "من كيس خرو.."

سأجلس لأكتب هذا المقال على مقعد آخر.

سأراقب المشهد السوري من زاوية أخرى. سبق لي أن صعدت عدة مآذن في حلب، ودرت في صحنها العلوي، كنت كلما نظرت من جهة أرى أمامي مشهدا آخر، وربما مدينة أخرى. جربوا هذا فهو ممتع. أحيانا إطلالة تأخذك إلى الماضي وأخرى تحملك إلى المستقبل. واحدة إلى حيث الفقر وأخرى إلى حيث الغنى؛ جربوا هذا، فهذا ليس لعبة، إنه طريقة للاستبصار، وعندما تختلف عليّ حاول أن تعرف كيف أنظر إلى الأمر، وعندما أختلف عليك عليّ أن أحاول كذلك. من هذا المقعد المستشرف أحاول في هذا المقال أن أنظر إلى الدم السوري المسفوك أفانين من الظلم والطغيان..

كثيرا ما أتساءل: أين كان أبونا آدم عندما قتل قابيل جدنا هابيل؟؟ وكيف استقبلت أمنا حواء الخبر ؟؟ وكم كان عددنا نحن ذرية هابيل؟؟ أو أن أكثر أهل الأرض هم في هذا الزمان من نسل قابيل؟؟

من الأخبار خلال بضعة أيام..

الطيران الصهيوني يغير على أطراف دمشق، ويقتل مدنيين!! دم سوري مسفوك!!

وبالأمس جاءت الأخبار عن سعي لتجنيد آلاف السوريين للقتال أو للقتل في أوكرانيا. دم سوري برسم السفك، أسمع لسان حال الكثيرين يقول: إلى جهنم وبئس المصير. ولكن لسان العاقل المتأني الناظر في أعقاب الأمور يقول غير هذا القول، وهو ينظر بعين الاستحقاق اليومي والاستشراف المستقبلي. وتبقى هذه سورية ويبقى هؤلاء سوريين ويبقى من سيتركونهم كذلك.ثم أول أمس والذي قبله وقبله ظللت أتابع أخبارا عن شيوع القتل في المناطق التي يتحكم فيها بشار الأسد. حيث يسود القتل بأنواعه. وكل قتل هو سفك للدماء. وبت أدير الكلام كيف أقول؟؟؟

كمين في تدمر- اغتيال في حوران- قتل في اللاذقية - جريمة في حلب عدوان في حمص.. كنا نقول " زيت وزعتر كل يوم في الصباح" وصرنا نقول " قتل ودم لا يفارقان حياة السوريين". ومن لم يمت بسلاح الطيران مات تحت التعذيب أو بسلاح الغيلة أو بالعبوة الناسفة، أو بفعل مهربي المخدرات وكذا فعل الزارعين ..وهذه هي إدارة بشار الأسد الذي يسعى العالم والجامعة العربية لإعادة تأهيله...

بشار الأسد الذي يساعده على ضبط الأوضاع العامة في الأراضي السورية: الروس والإيرانيون وخبراؤهم ومستشاروهم وميليشياتهم، ثم التحالف الأمريكي أجمع ما زال غير قادر على ضبط الأوضاع الأمنية والاجتماعية في المدن والتجمعات!!

بشار الأسد ما يزال يواجه أشكالا من " التمرد " ولا يستطيع الإحاطة بها،

رجل في الخامسة والسبعين مثلي يفكر هكذا: هذا الدم المسفوك هو دم سوري, وهذا الدم كله لا يقلق بشار الأسد أبدا!! ولا أتصور بشار الأسد بكى للحظة على دم طفل سوري مسفوك لا من شيعته ولا من عدوه. وربما هذا يضع بيننا وبينه هوة لا تردم ولا تجسّر.

المجند السوري الذي فرضت عليه الظروف الصعبة والمعقدة والمختلطة أن يكون مجندا في هذا التوقيت، والذي لم يعرف كيف يهرب، ولا إلى أين يلجأ ، هو شاب سوري ربته أم سورية عشرين سنة ليكون أملها، ولتراه عريسا، ولتحمل ولده على يديها، وليس ليعيده بشار الأسد إليها محمولا على نعش بعد أن يستخدمه في إحدى مغامراته غير الحميدة!!.

بشار الأسد حين يسفك هذه الدماء مباشرة، أو يتسبب بسفكها بأي طريقة أو ذريعه؛ إنما ينفقها "من كيس خرو" . سفكُها لا يؤذيه ولا يؤلمه ولا يعنيه. ولا أرضى أن نكون مثله. ولا أرضى أن نكون مكانه. ولا أرضى أن نجعل من طريقته اللاإنسانية مصدرا للتشريع. بشار الأسد وهو يسفك دماء المعارضين يسفك كذلك دماء الموالين على السواء. يسفكها بنفس السهولة ونفس الرخص ونفس اللامبالاة، ومن لم يستشرف هذه الرؤية بعدُ فهو بعيد.

وهذه الرؤية ليست دعوة إلى تبسيط المعقد بل إلى فكفكة العقد، إلى موقف إنساني وشرعي منيف. وكل ذلك يدعونا إلى مراجعة الموقف الثوري العام مما آل إليه الأمر في كليّ أمرنا من حيث نريد أو لا نريد... ثرنا على نظام مستبد فاسد، ولم نثر على مجتمع، لا على كل ولا على بعض من فيه، غير من ظلم وأثم فلا يهلك إلا نفسه.

سرديتنا الثورية تحتاج إلى مراجعة. مراجعة عملية جادة تضع نصب عينيها الوفاء لدماء الشهداء والوفاء لدماء الأحياء..

بشار الأسد مستعد للقتال حتى آخر قطرة دم لمجند سوري يسقيه من طينة الخبال.

وما دام هدف المعارضة العتيدة تعديل الدستور فأنا لا أدفع ثمنا لدستور في عهد ظالم مستبد قلفة حمامة طفل سوري واحد من أي السوريين كان !!

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 971