أثر اختلاف معادن البشر على سلوكهم
عبارة يرددها الناس كثيرا وهي قولهم : " الناس معادن " ويذكرونها سواء سرهم أو ساءهم سلوك صادر عن غيرهم تجاههم . والحقيقة أن هذه العبارة هي جزء من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو حديث متفق عليه رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام إذ قال : " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ، والأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف " ومعلوم أن المعدن هو مكان كل شيء فيه أصله ومركزه . ولما كان بطن الأرض فيه مواد تستخرج منه ، وهي متفاوتة القيمة حسب طبيعتها ، وحسب فوائدها ، فقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بمعادن الأرض لأنهم هم أيضا يتفاوتون في سجاياهم . وقد ذكر عليه الصلاة والسلام معدني الذهب والفضة دون غيرهما من المعادن لأنهما معدنان نفيسان ولا تقبل طبيعتهما الصدأ الذي يعتري غيرهما من المعادن . وما يقابل قيمة معدني الذهب والفضة عند البشر حسن الخلق وحسن العمل . كما أن معدن الذهب يفوق معدن الفضة نفاسة وقيمة ، فإن الأحسن خلقا وعملا من الناس يفوق من دونه حسنا في الخلق والعمل .
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه كما لا تغير الشوائب من قيمة معدني الذهب والفضة ، فكذلك لا تغير الأحوال من طبيعة خيار الناس وأحسنهم خلقا وعملا ، وهو ما يؤكده قوله عليه الصلاة والسلام : " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " ، فالجاهلية التي مر بها العرب لم تغير شيئا من طباع خيارهم ومكارم أخلاقهم التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمّمها ، وبالفعل قد بقي الخيار منهم في الجاهلية خيارا في الإسلام تماما كما يبقى معدنا الذهب والفضة على أصلهما وإن شابتهما شوائب معادن أخرى دونهما نفاسة كما يفعل بهما بعض المدلسين من الصاغة حين يخلطون مثلا الذهب بالنحاس إلا أن حذّاق النقاد يميزون منه الصحيح من الزائف .
ومعلوم أن معدني الذهب والفضة كل منهما يتفاوت في قيمته حسب درجة جودته ، وكذلك الشأن بالنسبة للبشر الذين معدنهم ذهب ، والبشر الذين معدنهم فضة وغيرهم ممن معادنهم نحاس أو حديد أو غير ذلك . ولقد تفاوت الخيار في الجاهلية مع أنهم كلهم كانوا خيارا ، وتفاوتوا في الإسلام وكلهم كانوا خيارا ، وكذلك حال الناس من بعدهم إلى قيام الساعة .
ولاختلاف معادن الناس دور في تقاربهم وتباعدهم ، وهو ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " والأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف " ، فمدار الائتلاف والاختلاف بين الناس هو تعارف أو تناكر أرواحهم ، ويحصل ذلك بما يجمع أو يفرق بينهم من سجايا وأعمال. وقد يحس الفرد بميل وانجذاب نحو غيره أو العكس، وذلك بما يعرف منه أو ينكر.
وقد يقع ائتلاف بين الأباعد بينما يقع الاختلاف بين الأقارب لأن الأرواح المجندة عند هؤلاء و عند أولئك يحكمها قانون التعارف أوا لتناكر، ويحصل بالتقاطع والتلاقي عند سجايا وأعمال معينة ، ومن اختلفت سجاياهم وأعمالهم لا يمكن لعلاقة القرابة أن تقرب بينهم ، ومن تآلفت سجاياهم وأعمالهم لا يمكن لعلاقة البعد أن تفرق بينهم .
واستكمالا للفائدة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد من ذكر حديث آخر له ، روايته دائما أبو هريرة رضي الله عنه الذي قال، قال عليه الصلاة والسلام : " تجدون الناس معادن ،خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم كراهية له ، وتجدون شر الناس ذا الوجهين ، الذي يأتي هؤلاء بوجه ، وهؤلاء بوجه " . ولقد نقد عليه الصلاة والسلام معادن الناس نقدا دقيقا ومحصها تمحيصا ، فجعل الخيار في الإسلام خيارهم في الجاهلية على ما كان منهم من شدة كره للإسلام ، وجعل شرارهم منافقين يبدون عكس ما يخفون . وسيبقى هذا حال الناس مع الإسلام حتى تقوم الساعة ، ولكل عصر أمثال الفاروق ، وسيف الله المسلول وهما نموذجان من خيار الجاهلية ، وخيار الإسلام بعدما فقهوا .
وتزداد أهمية ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان الذي نفتقد فيه المعادن البشرية النفيسة ، وتطغى فيه سيطرة المعادن الخسيسة بناء على ما يصدر عن هؤلاء وأولئك من سلوكات . والنفاسة والخسة في المعدن البشري لا يختلف فيهما بلد عن آخر، ولا قوم عن آخرين ، ولا ذكور عن إناث.
والمسلمون بحكم دينهم تفترض فيهم نفاسة معدنهم البشري ، والسبيل إلى اكتسابها هو فقه قيم دينهم . ومؤسف جدا أن نجد في المسلمين من وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر الناس من ذوي الوجهين الذين يأتون المسلمين بوجوه ، ويأتون من ليسوا على دين الإسلام بوجوه أخرى ، وهم شر على الإسلام حين يدعون محاولة التوفيق بين شرعه وبين شرائع غيره، وهم إنما يلفقون بينهما تلفيقا .
وبقي أن نقول إن من كان معدنه خسيسا فلن يجدي معه الصقل والتلميع لأنهما ينكشفان عنه لا محالة ، فيبدو على حقيقته ، كما أن من كان معدنه نفيسا فلن يجدي معه الطمس والتقبيح لأنهما ينجليان عنه لا محالة ، فيظهرعلى حقيقته.
ومن نماذج المعدن الخسيس قوم انخدع الناس بهم ، وظنوا بهم الخير خصوصا وقد انتسبوا إلى القرآن الكريم ، وقدرهم الناس لقدره عندهم لكنهم مع مرور الزمن غلب طبعهم على تطبعهم ، فتبين لمن أحسن الظن بهم أنهم إنما يستخدمون القرآن ولا يخدمونه ، وقد استغلوه حتى أدركوا مرادهم ، وكشف الله تعالى سرهم وأعلنه في الناس ، وهم من شرار الخلق .
ومن نماذج المعدن النفيس قوم آخرون خفيت عن الناس نفاسة معدنهم حتى ظنوهم لخفاء حقيتهم أنهم دون أقدارهم فقيض لهم الله تعالى ما يجلو معدنهم النفيس كي ينالوا ما يستحقونه من تقدير ، وهؤلاء من خيار الناس قد أعلن الله تعالى خيرتهم وأشاعها في خلقه ، وله سبحانه وتعالى في خلقه شؤون ، وهو فعّال لما يريد .
وسوم: العدد 991