الفلسطينيون يحاصرون محاصريهم الإسرائيليين

بعد شهور من يأس إسرائيل في إصرارها على قمع الانتفاضة الأولى ، ظهر مشهد له رمزية عميقة : حصن الجيش الإسرائيلي سيارات جنوده بإطارات حديدية شبكية بدا جنوده خلفها شبيهين بالجناة المنقولين بين السجون . وكانت عيونهم تتلفت ذعرا في كل اتجاه ، وبدا طبيعيا أن يتساءل من يراهم : من الأقوى والأكثر أمنا هم أم الأطفال والشبان الفلسطينيون المنتفضون الذين ما كانوا يستعملون سوى الحجارة ؟! من الذي يحاصر الآخر ؟! الجنود الإسرائيليون المثقلون بأفتك الأسلحة والمتحصنون في جيباتهم ومجنزراتهم ودباباتهم ومواقعهم أم هؤلاء الأطفال والشبان الذين لا يملكون سوى الحجارة والعصي والإطارات المشتعلة يراوحون بين استعمالها ؟! الإجابة كانت واضحة . قوة الحق المعنوية انتصرت على قوة الباطل المادية . صاحب الأرض الشرعي هزم الغازي المستوطن ، حاصر الفلسطينيون محاصريهم الإسرائيليين ، وأطلق رابين وزير دفاع إسرائيل ، الذي هدد في مستهل الانتفاضة بتكسير عظام المنتفضين ، أمنيته اليائسة الشريرة بأن يبتلع البحر غزة ، وبحر غزة ، بحر فلسطين ، وفي لا يبتلع أهله وجيرانه الأحباء الذين عاشروه آلاف السنين أجيالا وراء أجيال ، وبثوا الحياة والعمران والازدهار على شاطئه ، وبنوا الموانىء على شاطئه ، فوصلوا بين آسيا وأوروبا وصلا تجاريا وحضاريا ،  وهو ، في النقيض ، يلفظ الغزاة الذي يعتدون على أهله وجيرانه الأحباء ، وفعلا لفظ الغزاة الإسرائيليين وإن ظلوا يحومون حوله ، ولن يطول حومانهم . استرجعت ما سلف في جو شكوى مليون وربع مليون مستوطن في غلاف غزة من منع الحركة الذي فرضه عليهم الجيش الإسرائيلي خوفا من انتقام حركة الجهاد الإسلامي بعد اعتقال القائد البارز فيها بسام السعدي ، الاثنين الماضي ، في جنين . استهجن هؤلاء المستوطنون ، وكثيرون سواهم من مستوطني إسرائيل ، حرية حركة الناس في غزة موازنة بحبسهم ، المستوطنين ، في بيوتهم المقامة على أرض ليست لهم ، بل لمواطنين في غزة القريبة ، ولم يعنِ هؤلاء المستوطنين الأفظاظ  المتحجري القلوب أن معابر غزة أغلقت في وقت منع حركتهم ، وأن غزة محاصرة من دولتهم منذ 16 سنة . كل عذاب في غزة يرونه مشروعا ، وأقل نكد يصيبهم يرونه منكرا ولو كانوا هم ودولتهم سببه . لم يسأل أحد منهم : بأي حق  اعتقلت هذه الدولة الكريهة بسام السعدي اعتقالا مهينا ؟! يكفيهم أن يوصف الفلسطيني بأنه إرهابي ليستحق كل إذلال وكل تعذيب أو يقتل على الشبهة . ولأتفه حدث يخرجون في مسيرات يهتفون : " الموت للعرب ! " ، الموت للعرب ، والحياة لهم . شقيق الجندي الأسير هدار جولدن ، حيا أو ميتا ، هدد منذ أيام بتدفيع حماس ثمنا عظيما لكل ساعة من ساعات سني أسر شقيقه الثماني ، ولم يفكر لثانية واحدة في 4500 أسير فلسطيني لدى دولته ، بينهم مسنون ومرضى ،  و 34 امرأة ، و 180 قاصرا . عمى قلب وعمى بصيرة جعلا هؤلاء المستوطنين الغزاة لا يرون بشرا سوى أنفسهم ، وهذا طريق هلك كل من سار عليه عبر التاريخ ، وهو نفس مصير هؤلاء   

المستوطنين الذي يخدعون أنفسهم بتجاهله ، أو ربما يجهلونه فعلا في ظلمة خرافتهم الفاسدة بأن فلسطين وطنهم الذي عادوا إليه ، ويغفلون عن بعض الأصوات الإسرائيلية التي تحذر منه في أجواء الوحشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ، والتصرف باعتبارهم مؤقتي الوجود في المكان ، وأن الجو الجغرافي والاستراتيجي صفا وراق لدولتهم مع ريح التطبيع العربي الهوجاء . والمتجاهلون أو الجاهلون جميعا ملزمون ، ليقرؤوا الواقع والمصير قراءة صحيحة ، أن يفكروا عميقا ونزيها في التقهقر الجلي لقدرة دولتهم على اللجوء لحلول عسكرية لمعضلاتها الأمنية مع الفلسطينيين واللبنانيين لكون هذه المعضلات لا حلول عسكرية لها ، بل حلول سياسية جوهرية ، وأن يمنحوا هذا التفكير العميق والنزيه لاستخلاص العبرة من كيفية رعب دولتهم من حركة الجهاد بعد اعتقال بسام السعدي دون أن تطلق الحركة رصاصة واحدة ، وفعلا قرأ بعض الإسرائيليين هذه الحالة قراءة صحيحة ، وعادوا لتكرير الحديث عن هشاشة ووهانة الجبهة الداخلية الإسرائيلية ، وعلى هؤلاء القارئين أن يوازنوا بين جبهتهم الهشة الواهنة رغم جبروت القوة المادية لكيانهم وبين صلابة وقوة المقاومة العربية في فلسطين ولبنان رغم ضآلة قوتها المادية مقايسة بقوة كيانهم ، ويوضحوا لمستوطني هذا الكيان جوهر حقيقة الحال بين الطرفين ، وكيف بات الفلسطينيون يحاصرون الإسرائيليين الذين كانوا البادئين بحصار الفلسطينيين ، وكيف صارت المقاومة اللبنانية تخيف إسرائيل ، وترد على أي تهديد منها بأعنف منه وأجرأ . يهدد وزير المالية ليبرمان بمحو الضاحية الجنوبية إذا هاجم حزب الله منصة الغاز الإسرائيلية في حقل كاريش ، فيرد الحزب بأنه سيمحو تل أبيب انتقاما لمحو الضاحية . القوة العسكرية الإسرائيلية لا تكفي وحدها لبقاء إسرائيل للنقص الكبير المستعصي في شرعية وجودها في وطن الشعب الفلسطيني ، ويصف عاموس جلعاد الذي تولى زمنا  طويلا رئاسة  القسم السياسي _ الأمني في وزارة الأمن الإسرائيلية حال إسرائيل هذه بأنها تشبه بيتا محصنا تحصينا جيدا إلا أن النمل الأبيض يأكله من داخله .   

*** 

بعد كتابة المقال عصر  الجمعة ، انفلتت أعصاب إسرائيل من قبضة يدها المرتجفة المتوترة ، فاغتالت تيسير الجعبري قائد سرايا القدس في شمالي غزة ، وقتلت عشرة مواطنين بينهم طفلة خمس سنوات ، وجرحت  العشرات ، وردت حركة الجهاد بقصف تل أبيب وغلاف غزة ، وتوسع القتال وتحوله إلى حرب أقرب من نهايته . لم تتحمل الحكومة الإسرائيلية ممثلة في رئيسها لبيد ، ووزير دفاعها غانتس اتهامها من المستوطنين والخصوم السياسيين بالانهزام أمام حركة الجهاد دون أن تطلق الحركة رصاصة واحدة . ولم يكن في قدرتها مهاجمة حزب الله ارتداعا من قسوة رده ، وهي تواجه مصاعب أمنية معقدة وحادة في الضفة والقدس ، فاستسهلت تنفيس احتقاناتها وأزماتها في غزة مثلما حدث في عدوانها عليها في 2014 ، و2021 . إنها تهرب إلى الأمام . ماذا ستحل حربها الخامسة على غزة من مآزقها ومعضلاتها الجذرية المزمنة ؟! تدور في ذات الحلقة التي لا منفذ فيها لأي بر أمان واستقرار، وبعد الحرب ، مثلما كان قبلها ، سيواصل الفلسطينيون  حصار محاصريهم  الإسرائيليين حتى يخلعوهم نهائيا من تراب وطنهم . وأكتب هذه الإضافة بعد صلاة العشاء بينا تتوامض بروق القصف العدواني وبروق رد المقاومة عليه . الحرب الخامسة التي بدأتها إسرائيل على غزة في الخامس من أغسطس الحالي  أكثر حروبها غباء وحماقة ومعدومية سبب مباشر ، وحصادها سيكون من صنف نوعيتها .  

*** 

في عدوان 2014 على غزة ، استقرت  مجموعة من الجنود الإسرائيليين في بيت قريب من خط الهدنة شرقي مدينة دير البلح ، ولم يكن فيه سوى  سيدة مسنة . وروت  كيف كانوا يصيحون مبتهجين ويحتضنون بعضهم بعضا كلما سمعوا خبرا يبشر بتوقف الحرب ، وابتهجوا ابتهاجا عارما حين توقفت ، وغادروا البيت مرددين : شلوم ! سلام !    

وسوم: العدد 992