هَلَاكُ طَاغِية
ملحوظة: هذه المقالة كتبتها منذ هلاك الطاغية في (10حزيران من عام (2000م)، ونشرتها مرّاتٍ عدّة في الأعوام اللاحقة، بعد إضافاتٍ وتحسينات، واليوم، أجد أهميةً خاصةً لإعادة نشرها، تنشيطاً لذاكرة السوريّين، سواء أكانوا من الشرفاء، أو من الطُغاة، أو من العَبيد، أو من السُفَهاء، أو من العُمَلاء الطائفيّين الـمُـمَالئيين.
* * *
بعد أن ملأ الأرض السورية ظُلماً وجَوْراً وقهراً واضطهاداً واستبداداً.. مات (حافظ أسد)، وانتُزِعَت روحه إلى بارئها، إلى حيث القسط والقصاص العادل.. إلى حيث تنتهي كل حمايةٍ خاصة، وتتوارى كل الأجهزة الأمنية المخابراتية الداعمة، ولا تنفع المراوغات والشعارات الفارغة أصحابَها.. فهناك.. هناك عند مليكٍ مقتدِر.. لا يَلقى الإنسان إلا ثمرات عمله في الحياة الدنيا.. وما أبشعها من ثمراتٍ خلّفها حاكم ظالم متجبِّر سفّاح نهّاب مثل (حافظ أسد)!..
مضى الربّ المزيَّف، ولم يبقَ له إلا عمله الذي سيُحاكَم عليه، محاكمةً عادلة، غير استثنائية ولا عُرفية ولا مَيدانية ولا عسكرية، وليست كمحكمة (أمن الدولة) الأسدية.. فهي محكمة ربّانية، قاضيها هو رب الأرباب الحق العادل المنتقم الجبار، العالم بظواهر الأمور وما تُخفي الصدور، العارف بكل ما يجري في هذا الكون الذي يُقلِّبه كيف يشاء!..
مضى (الرفيق الفريق القائد الزعيم).. بعد أن أنزل بالوطن والأمة والشعب كل عوامل الاضطهاد والانتهاك والامتهان!.. فقد زرع في كلّ بيتٍ مصيبةً، وفي كلّ عائلةٍ قصةً حزينة، وفي كلّ شارعٍ أو ركنٍ أو زاويةٍ وجهاً كئيباً يختصر في عينيه ذُلاًّ بدأ منذ أكثر من نصف قرن، وقهراً لن يُنسى، على الرغم من كلّ المكائن الإعلامية الطاغوتية، التي تحوِّل الأبيضَ إلى أسود، والأسودَ إلى أبيض!..
* * *
الحاكم الذي مضى، رسّخ في الوطن علاقاتٍ وطنيةً.. مفكّكةً ممزّقة!.. وحُرّيةً مجهريةً لا يتنسّمها المواطن -العزيز على قلبه- إلا مرةً واحدةً كل سبع سنوات، تتجسّد في قول كلمة: (نعم)، للسيد الذي لا قبله ولا بعده سيد!..
رئيس الزمرة الذي مضى، خَلّف لشعبه كلّ (خيرات) قانون الطوارئ والأحكام العُرفية، التي تدعو لبناء سجنٍ بجوار كلّ مدرسة، ومعتَقَلٍ صحراويٍ في كلّ بادية، ومركزٍ لصناعة العبودية بجوار كلّ مصنع، وزنزانةٍ مترامية الأطراف تبتلع الوطن كلّه!..
الزعيم الذي مضى، ترك في خاصرة الوطن جرحاً نازفاً، يئنّ تحت بساطير الصهاينة المحتلّين، الذين ما كانوا قادرين على احتلال الأرض وانتهاك العِرض، لولا (حُنكته وعبقريته)، و(صموده) الإذاعيّ والتلفزيونيّ بلا هوادة!..
القائد الذي مضى، ورّث (عدلاً ورغداً)!.. فتحوّل الوطن إلى: سجينٍ مُشوَّهٍ أو مُعاقٍ يئنّ تحت سياط جلاّديه، ومُعتَقَلٍ مجهول المصير، ومُهَجَّرٍ مطارَدٍ في أصقاع الأرض بعد الاستيلاء على بيته وأملاكه، ومُقرَّبٍ لصٍّ يغرف من خيرات الوطن بلا رقيبٍ أو حسيب، وفقيرٍ مسحوقٍ يدفع ضريبة هويّته ودِينه، ومواطنٍ ذليلٍ سُلِبَت كرامته، ومسجدٍ دُكَّت أركانه، ومُصحفٍ شريفٍ مُزِّقَت صحفه، ومدينةٍ هُدِّمت فوق رؤوس أهلها، وقريةٍ مزروعةٍ بالرعب، وامرأةٍ انتُهِكَ حجابها، وطالبةٍ مسلمةٍ ممنوعةٍ من الالتزام بحجابها الإسلاميّ، وطبيب عيونٍ فُقِئت عيناه، وطبيب أعصابٍ شُلَّت أعصابه، وحُرٍّ اغتيل في أقاصي الأرض، ومجزرةٍ رهيبةٍ في كلّ باديةٍ أو صحراء أو مدينةٍ أو قرية.. وأمٍ ثكلى، وزوجةٍ حائرة، وطفلٍ مُيتَّمٍ، وشيخٍ عجوزٍ مكلوم، ومَقبرةٍ جماعيةٍ في باطن كلّ بقعة أرضٍ سوريةٍ أو لبنانية!..
(حافظ أسد) الذي مضى، ترك لوطنه جيشاً متمرِّساً في احتلال المخيّمات الفلسطينية، ومُدَرَّباً على قصفها وانتهاكها، وخبيراً في تمزيق المقاومة وسَحْقِها.. جيشاً مُنَظَّماً مُنْضَبِطاً، مُبَرمَجَاً على ضبط النفس أمام كلّ عدوانٍ صهيونيّ، وعلى الالتزام بالخطوط الحمراء التي رسمها اليهوديّ الصهيونيّ (هنري كيسنجر).. جيشاً هادئاً هدوء الأموات على جبهات القتال مع العدوّ الصهيونيّ منذ حوالي نصف قرن!.. ومُـختَصَّاً بالاستعراضات العسكرية الاحتفالية السنوية، التي تُـمَجِّد خيانة الحاكم وباطلَه وشعاراته الجوفاء!..
الطاغية الذي مضى، أرسى لوطنه وشعبه إرثاً من المبادئ (العظيمة)!.. أولها أنّ مقاومة (الإمبريالية) لا تكون إلا بالتحالف معها!.. وآخرها أنّ (الخيار الاستراتيجيّ) في تحقيق السلام! مع العدوّ الصهيونيّ.. هو الطريق المثمر الوحيد، لتحرير الأرض من الغاصب المحتلّ، حتى لو امتدّ أمد هذا الهراء آلافاً من السنين!..
الجبّار الخائن الذي مضى، سنّ لشعبه وللعالَم كلّه سُنّةً (حسنةً مُـحَسَّنة)!.. هي أنّ الحاكم (الجمهوريّ!) الذي يأتي على ظهر دبابةٍ، عليه ألا يغادر كرسيّ الحكم إلا على عربة مدفع!.. ثم عليه أن يستنسخ حكمه، فيجعل من الوطن مزرعةً يرثها الأبناء، تحت غطاءٍ مُـزَيَّفٍ من الانتخابات (الحرّة النـزيهة)، والاستفتاء الشعبيّ القسريّ العارِم!.. وبذلك تصبح مدّة الحكم الجمهوريّ (الأسديّ): من المهد إلى اللحد!..
الظالم الذي مضى، بنى في وطنه (دولة المؤسّسات)!.. فأصبح الحزب الحاكم هو الوطن!.. والبرلمان بصمة إبهامه الأيسر، ومكان التصفيق له والهتاف بحياته!.. وغدت المؤسّسات السياسية الشعبية مُتحفاً صامتاً!.. وأصبح الدستور مِشجباً دائماً، لا يُنتَهَك إلا برغبته ورغبة زبانيته، وقابلاً للتفصيل بدقّةٍ حسب الطلب أو الرغبة!.. وصارت الأحزاب الوطنية نَصْباً تذكارياً!.. وغدت قوانين الطوارئ والأحكام العُرفية، هي الخيمةَ التي تنعم في ظلّها كلُّ المؤسسات (الديمقراطية!) العجيبة، بما فيها أجهزة المخابرات، المزروعة في كلّ مترٍ مربّعٍ من أرض سورية، لحماية العصابة الحاكمة من الوطن، والحاكم من الشعب!..
المستبدّ الذي مضى، علّم الأمةَ دروساً بليغةً في (نظافة اليد وطهارة الجيب) و(المحافظة على الثروات الوطنية)!.. فاحتلّ مع بعض أفراد عائلته وعشيرته، المراكزَ المتقدّمةَ في قائمة أثرياء العالم، من أصحاب عشرات مليارات الدولارات الأميركية!..
* * *
هذا بعض ما خلّفه الطاغية، الذي مضى على عربة مدفع!.. أما وريثه القادم على أسنّة التسلّط والقمع والإجرام والباطل والخيانة، فبفضله زالت سورية عن الخريطة، بعد أن سلّمها يدا بيد، إلى المحتلّ المجوسيّ الفارسيّ الإيرانيّ الإجراميّ، وإلى المحتلّ السفّاح الصليبيّ الروسيّ، ووصل اقتصاد البلاد إلى الانهيار، واستشرى الفساد وتجذّر في مؤسسات ما كان يُعرَفُ بالدولة.. كلها!.. وتكاثر الفاسدون والنهّابون وتناسلوا، بشكلٍ لم يسبق له مثيل في التاريخ السوريّ، وصار الكبتاغون أساس اقتصاد ما تُسمّى بالدولة!..
الوريث الذي نصّبوه على عرش سورية بالزور والتزوير، أضاف إلى سلسلة المنجزات (العظيمة) للعهد الذي مضى، منجزاتٍ أخرى أشدّ خطورةً وإجراماً وخيانةً وهمجيةً وسادية!.. بعد أن خلَّف الطاغيةُ الوالدُ الذي مضى، حِمْلاً ثقيلاً من الاقتصاد المتخلّف المنهار، وحِمْلاً أثقل من الفساد الاقتصاديّ والاجتماعيّ والقِيَمِيّ والتعليميّ والإنسانيّ والثقافيّ والسياسيّ، وحِمْلاً مروّعاً من العلاقات العربية والدولية المقطّعة الأوصال!..
* * *
مع ذلك.. مع ذلك كله، فإنّ الهالك (حافظ أسد)، هو بطل كلّ قضية، مما يخطر أو لا يخطر على قلب بَشَر!.. من التحرير والوحدة والحرية، إلى التقدّم والازدهار والحداثة!.. ومن الديمقراطية واحترام كرامة المواطن وحقوق الإنسان، إلى العدل والرخاء والمساواة!.. ومن الحُنكة والدهاء والذكاء الخارق، إلى العبقرية والفكر الأصيل العميق!.. ومن الوطنية القُطرية، إلى القومية العربية!.. ومن النـزاهة والنظافة والطهارة، إلى السماحة والحُبّ الخالص والإخلاص للوطن والأمة والشعب!..
إنّه زمن النظام العالميّ المجوسيّ الصليبيّ الصهيونيّ، وزمن (البرمَجَة)، الذي تُبَرمَج في ظلّه العقول الخاوية، والقلوب الداكنة، والضمائر الميّتة، والأفئدة التافهة.. فيتحوّل (المبرمَجون) في طول الأرض وعَرضها، إلى (جَوْقةٍ) ضخمةٍ ممتدّةٍ، لا تغيب عنها الشمس!..
العالَم الذي ترسم سياساته حفنةٌ من التافهين، ليس صعباً عليه أن ينشغل بذكر مناقب الطغاة الجبّارين الـمُفسدين في الأرض، الذين (أحبّوا) أوطانهم وشعوبهم وأمّتهم.. حتى العظم!..
* * *
هنيئاً للمتشدّقين والمتفيهقين والعبيد، من ذوي الذاكرة المثقوبة والضمائر المشلولة، الذين ماتوا ولم تُقبَض أرواحهم بعد!.. أو الذين صُنِعوا لمهمة مصّ أصابعهم!.. فلعلّ أهم منجزات الطاغية الذي مضى: هي تأسيسه (صناعةً إعلاميةً تحويليةً) مشبوهة!.. مزوَّدةً بكلّ المكائن الحديثة المتقدّمة، التي تُحَوّل الخِزيَ إلى عِزّ، والظلمَ والجَوْرَ إلى عدل، والباطلَ إلى حَقّ، والقهرَ إلى حُرّية، والاستبدادَ إلى ديمقراطية، والهزيمةَ المنكرة إلى نصرٍ مؤزّر!.. وتُحوِّل مَن كان وراء كلّ نكبةٍ وهزيمةٍ وتشرذمٍ ومؤامرةٍ وعبوديةٍ ومصيبةٍ، وأزمةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وتعليميةٍ وثقافيةٍ وسياسيةٍ.. تحوِّله إلى زعيمٍ تاريخيّ!.. تماماً، كتحويل (اللا) إلى (نعم) بواسطة صناديق عصريةٍ ديمقراطيةٍ مُـحَسَّنة، أطلق عليها الطاغية الهالك (حافظ أسد) اسم: صناديق الاقتراع أو الاستفتاء!..
وسوم: العدد 1036