تطبيع عربي مع نظام الأسد وممانعة غربية

تسارعت خطوات التطبيع العربية، بقيادة السعودية، مع نظام الأسد منذ هز الزلزال المزدوج جنوب تركيا وشمال سوريا في شهر شباط الماضي. سوريا المفككة والمنهكة أصلاً بسبب الحروب الدموية التي جرت على أراضيها طوال اثني عشر عاماً، أضاف ما خلّفه الزلزالان دماراً على الدمار الذي تسببت به براميل بشار الأسد المتفجرة وصواريخه وقذائف دباباته ومدافعه، ووصلت معاناة الناس تحت سلطة الأسد والسلطات الأخرى في المناطق غير الخاضعة لسيطرته درجات مهولة من الفقر والجوع والبطالة وانتشار الأوبئة وتفكك المجتمع وانتشار الجريمة وتجارة المخدرات التي تجاوزت آثارها الحدود فباتت مشكلة أمن قومي لدول الإقليم وللعالم.

هذه اللوحة الكالحة، مع جمود الجهود الأممية والدولية لإيجاد حل سياسي يكون مدخلاً لمعالجة الجرح السوري المفتوح، أتاح فرصة لبعض الدول العربية للتقدم بمبادرات سياسية على أمل التخلص من الصداع السوري. وارتأت تلك الدول، بقيادة السعودية، أن المدخل المتاح لعمل شيء ما إنما هو تطبيع العلاقات مع نظام بشار بوصفه ما زال يحتفظ بالشرعية الأممية في تمثيل سوريا، على رغم كل الجرائم الفظيعة التي ارتكبها خلال السنوات الماضية، وعلى رغم العزلة السياسية الخانقة التي تطوق عنقه.

وهكذا توالت الاجتماعات العربية في جدة وعمّان مجلس الجامعة العربية الذي قرر إعادة مقعد سوريا الشاغر منذ اثني عشر عاماً للنظام، وتلا ذلك دعوة رأس النظام لحضور اجتماع القمة في جدة. اجتماعا جدة وعمان أصدرا بياناً أكد على ضرورة بذل الجهود لإيجاد حل سياسي في سوريا في إطار قرار مجلس الأمن 2254 الذي ينص على انتقال سياسي وإنشاء هيئة حكم انتقالي كامل الصلاحيات، إلى آخر ما هنالك من بنوده المعروفة. وأن الجهود المذكورة ستبذل في إطار سياسة الخطوة مقابل خطوة التي كان اقترحها الملك الأردني قبل بضع سنوات ولم تؤدّ إلى أي تقدم ملموس بسبب تمسك النظام بتصوره لـ«الحل السياسي» الذي يقوم على تمكينه من إعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية وإخضاعه لجميع السوريين واستمراره في الحكم إلى الأبد بالطريقة الأسدية التقليدية.

وفي ذلك الإطار كان عدد من الدول العربية قد أعاد اتصالاته بالنظام وأعيدت العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفارات والزيارات المتبادلة. ثم توقف ذلك الزخم لأن النظام لم يبادل تلك الدول بأي خطوة مما هو مطلوب منه لإنهاء الصراع. إعادته إلى «الحضن العربي» إذن هي محاولة جديدة من كامل المنظومة العربية لحلحلة «العقدة السورية» العصية، فهل ثمة احتمال أن تثمر هذه المحاولة عن شيء مهما كان ضئيلاً؟

الواقع أن وزير خارجية الأسد فيصل المقداد قد أجاب بصفاقة على سؤال ما هي الخطوة المقابلة التي سيتقدم بها النظام لملاقاة الخطوة العربية التي تمثلت في إعادته إلى الحضن العربي، فقال إن «سوريا قد تقدمت بمئة خطوة، لكن الآخرين لم يتقدموا بخطوة واحدة!» علينا لفهم هذا الكلام أن نعرف كيف تبدو الأمور من وجهة نظر النظام، فالصورة مختلفة تماماً من هذه الزاوية عما يفهمها الآخرون. لسان حال النظام هو أنه قدم تنازلاً كبيراً بقبوله إعادة مقعده في الجامعة العربية، وفي تشريفه القمة العربية بحضوره. وهو ينتظر أن تفي الدول الأخرى بتعهداتها فترد الجميل بخطوات كثيرة مطلوبة منها إذا كانت حسنة النوايا، مثلاً أن تنهي الاحتلالين الأمريكي والتركي وتعيد سيطرته على كامل الأراضي السورية، وأن تقضي له على المجموعات المسلحة، وأن تساعده في إعادة إعمار ما دمرته براميله ودباباته وطائراته بتمويل كاف، وأن تمارس الضغوط على الدول الغربية لاستعادة شرعيته معها وتطبيع علاقاته، وأن تساعده على إسكات الأصوات السورية المعارضة خارج الحدود، والأفضل إلقاء القبض على المعارضين في الدول الأخرى وتسليمهم للمخابرات السورية لتقوم بالتعامل «المناسب» معهم… مقابل ذلك سيساعدهم النظام في الحد من تدفق المخدرات التي ينتجها نحو بلدانهم، وقد قام فعلاً بإفشاء معلومات عن عدد من الشحنات أثناء انعقاد اجتماعي جدة وعمّان مما أدى إلى إجهاضها على الحدود السعودية والأردنية. ولكن على الدول العربية المستفيدة من هذه «المكرمات» أن تعوّضه عن الخسائر المالية التي سيتكبدها بهذه الخطوة، «أم أنكم تريدونني أن أموت من الجوع؟»

مقابل ها الاندفاع العربي نحو التطبيع مع النظام، تبدو الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي متحفظة ورافضة لأي تطبيع معه ما لم يستجب بخطوات ملموسة لتلك المبادرات، بل إن بعض تلك الدول صعّدت من لهجتها تجاه النظام وتكرر تأكيدها على الانتقال السياسي وفقاً لقرار مجلس الأمن المذكور. بل شجعت أطرافاً سورية معارضة على القيام بمبادرات تعيد الصوت المعارض إلى المشهد بعدما غيّبته تماماً التطورات الأخيرة، فعقد اجتماع لهيئة التفاوض في جنيف كان أبرز ما جاء فيه هو استعداد الهيئة للعودة إلى طاولة المفاوضات مع إضافة صفة «المباشرة» عليها، في نوع من نزع أي ذرائع من النظام للتهرب من متطلبات الحل السياسي. من جهة أخرى عقد في باريس اجتماع لمنظمات مجتمع مدني سورية بمبادرة من رجل الأعمال المعارض أيمن أصفري، وآخر للمجلس العسكري بقيادة مناف طلاس، نجل وزير دفاع النظام الراحل مصطفى طلاس. وكان متوقعاً أن يحضر الرئيس الفرنسي ماكرون اجتماع باريس مما يضفي زخماً دولياً عليه، إضافة إلى حضور جميع ممثلي الدول الغربية فعلاً.

مجموع هذه التطورات يشير إلى حدود المبادرة العربية التي لا يمكنها تجاوز إطار قرار مجلس الأمن المشار إليه، وهو ما يرفضه النظام رفضاً مطلقاً.

وسوم: العدد 1036