ألغام جديدة في طريق المصالحة الليبية
هناك في ليبيا من يصرّ على أن تبقى العربة دائما قبل الحصان، وتحقيق الاستفادة الشخصية القصوى من الانقسام غير المبرر بين غرب البلاد وشرقها، وبين أبناء الشعب الواحد.
فبينما كان الليبيون يحتفلون بعيد الأضحى المبارك، ويقضون إجازتهم الرسمية ككافة بلاد المسلمين في العالم، كان هناك مجلس نواب من المفترض أن ولايته انتهت منذ نحو سبع سنوات ينعقد بأقل من نصف عدد نوابه ليقرّ تشكيل محكمة جديدة في البلاد هي المحكمة الدستورية، بدلًا من إقرار القوانين المتفق عليها من قبل المجلس السياسي المعروف باسم “أنسميل” لإتمام الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الموحدة في البلاد.
يجري ذلك وسط مخاوف كبيرة من أن هذا الإجراء غير المبرر قد يهدم في حال الإصرار عليه المنجزات القليلة التي تحققت بجلوس الأطراف المتصارعة على مائدة الحوار، فيعيد إلى الجميع الكرة من البداية، فضلا عن أنه قد يمسّ الدائرة القضائية بنار الانقسام الذي ضرب أطناب جميع مؤسسات الدولة الليبية، بعد أن ظل القضاء هو الأكثر توحدا واستقلالا بينها؛ وذلك بسبب إصدار المحكمة العليا للبلاد حكما سابقا بإجماع الآراء في مارس/ آذار الماضي بعدم دستورية إنشاء المحكمة الدستورية التي أقر مجلس النواب إنشاءها في مارس/ آذار العام قبل الماضي.
تسلسل الأحداث
ولملء الفراغ كانت المحكمة العليا قد أعادت في أغسطس/ آب العام الماضي تفعيل الدائرة الدستورية، وهي التي تم إغلاقها مع تفجر الصراع عام 2015 من أجل حفظ ثياب القضاء البيضاء من ملوثات الصراع السياسي، وقد نص قرار إعادتها على أن يرفع جميع أعضائها مصلحة البلاد فوق أي اعتبار مناطقي أو قبلي أو سياسي، وأن تكون المرجعية للدستور فقط.
ووجب التذكير بأن مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح يمارس عمله طبقا لسياسة الأمر الواقع بعد تعذر إجراء انتخابات برلمانية جديدة بسبب الصراع الدائر بين مليشيا الجنرال خليفة حفتر التي تسيطر على شرق البلاد وتتخذ من بنغازي عاصمة لها، وقوات الحكومة الشرعية برئاسة عبد الحميد الدبيبة المعترف بها دوليًّا في طرابلس والمجلس الأعلى الليبي برئاسة خالد المشري الذي اعتبر أن هذا الإجراء باطل وبعث برسائل إلى رئيس مجلس النواب مطالبًا إياه بإقرار القوانين الانتخابية المتفق عليها من قبل المجلس السياسي.
وكان لجنة 6+6 المشكلة من قبل مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، التي تجتمع في المملكة المغربية لوضع مشاريع قوانين الانتخابات بإشراف أممي، قد أعلنت في بدايات يونيو/ حزيران الماضي عن مفاجأة طال انتظار الليبيين لها بعد طول مماطلة وانقطاعات، وهي التوافق على قوانين الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ولم يبق إلا الإعلان الرسمي عن موعد الانتخابات وتصديق رئاسة مجلسي الدولة والنواب عليها.
الخلافات المستقبلية
هناك تكهنات بأن الإجراء الذي اتخذه مجلس النواب الليبي بتسمية أعضاء المحكمة الدستورية يأتي أساسا في إطار تعميق محطات الخلاف مع الحكومة الشرعية في طرابلس، وذلك من أجل المساومة بهذا الإجراء والتنازل عنه على مائدة المفاوضات من أجل تمرير نقاط الخلاف الأهم والأكثر إلحاحا وعلى رأسها الموقف من ترشح العسكريين والمزدوجي الجنسية للمناصب العليا، وكذلك ما يأتي في مرتبة أدنى منها مثل الطريقة التي سيجري خلالها توحيد المؤسسات العسكرية والموقف من المقاتلين الأجانب، وتعيينات وزارة النفط والمالية، والقصاص، ومكافحة الفساد.
وليس خافيا على أحد أن الجنرال المتقاعد خليفة حفتر وهو المرشح الأول لرئاسة البلاد من قبل البرلمان والكتلة الشرقية هو عسكري سابق، شارك الناتو في الحرب ضد نظام معمر القذافي، وأنه يحمل الجنسية الأمريكية وهي الدولة التي عاش فيها قرابة 20 عاما قبل عودته مع تفجر أعمال 17 من فبراير/ شباط 2011، وبالتالي فإنه المتضرر الأكبر من مسألة إقصاء العسكريين والمزدوجي الجنسية.
وكثيرا ما اتهم “الجيش الوطني الليبي” قوات حفتر بأنها مدعومة من قبل مليشيا “فاغنر” الروسية، مما أحدث ارتباكا في فهم الولاءات التي يدين بها الرجل، فالدور الأمريكي في تنصيبه وتمكينه واستمراره واضح تماما في تراخي واشنطن اتجاهه، ومخاطبتها له بطريقة فيها ندية مع الحكومة المعترف بها دوليا، وعدم التنديد بمحاصرته للعاصمة طرابلس، وغير ذلك. ثم تأتي الدهشة حينما نجده يستعين بمليشيا قيل إنها مدعومة من قبل الحكومة الروسية التي هي في حالة عداء مباشر مع واشنطن!
بعد هذا التخبط في فهم المشهد جاء تمرد قوات “فاغنر” على الجيش الروسي في “أوكرانيا” مؤخرا ليضع لنا النقاط على الحروف ويبسط الخطوط المعوجة، ويقدم لنا احتمالا بأن قائد هذه المليشيا المدعو “بريغوجين” قد يكون عميلا لقوى غربية، وربما لواشنطن نفسها.
تكنهات
ولا يمكننا إغفال بيانات متكررة أصدرتها جهات تنسب نفسها لقبيلة القذاذافة التي ينتمي لها الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي تصف فيها حفتر بأنه عميل وخائن وأنه يستهدفهم في سرت ويحاصرهم تحقيقًا لأهداف ثأرية شخصية بسبب موقف القذافي منه، كما لا يمكننا إغفال ما نشرته فضائيات ليبية عن علمها بمخطط سري للتلاعب بتوصيات المجلس السياسي، والعبث بالإحصاءات السكانية ثم بالانتخابات المرتقبة، وأنه سوف يتم استغلال ذلك لإيصال حفتر إلى رئاسة البلاد.
لا نعرف مدى دقة هذه التحذيرات ولا مدى صحة إصدار قبيلة القذاذفة لها، وإن كانت في الواقع احتمالات متوقعة وواردة جدا، خاصة أن ما عهدناه في كل أحداث الربيع العربي كشف أن أسوأ الظنون التي ترددت على ألسنة المرجفين والمتشككين من الناس هي التي تحققت.
عموما الأيام القادمة ستكشف لنا إلى أين يتجه اللاعبون الدوليون بليبيا، إما إلى الاستقرار والنماء والعودة إلى الأيام الخوالي، وإما إلى مزيد من الانهيار والضياع، والأمر متوقف كله على نوعية التوافقات الدولية.
حفظ الله ليبيا وشعبها الطيب.
وسوم: العدد 1040