وطني ليس بطيخة.. ومتى يحق لك إدانة قتل 700 طفل؟

من إيطاليا، حيث تدير البلاد حكومة يمينية، يأتي صوت ينتقد الحظر الفرنسي للتظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، وهو ليس أي صوت، فهو وزير الخارجية الإيطالي أنتونيو تاياني الذي انتقد المنع بالقول: «حظر التظاهرات في بلد ديمقراطي، عندما لا تكون تظاهرات عنيفة، لا يبدو لي عادلاً». وقدّمَ أمثلة ناصعة: «احتجاجات سلمية تجري في الولايات المتحدة، وهي الدولة الأكثر التزاماً بالدفاع عن الإسرائيليين، بما في ذلك عبر وجود قوة بحرية لها (في شرق المتوسط)، كما نُظّمت احتجاجات في المملكة المتحدة».

هذه المنخوليا الفرنسية تجاه رموز فلسطين هذه الأيام لا تصدق؛ يمنع التضامن، يمنع التعبير، تمنع الرموز، ومع ذلك لا يتوقف الناس، عن التضامن والخروج في تظاهرات، رغم استخدام العنف في فض التظاهرات. يخرج الفرنسيون قبل العرب، لأن الحرب الوحشية الإسرائيلية على الفلسطينيين أفظع من أن يسكت عنها. سعار لا يشبهه إلا السعار الألماني (لا تبرره عقدة الذنب التاريخية، فمن المفروض أن ألمانيا كبرت، وبات بإمكانها أن تفهم أن الهولوكوست شيء، وصناعته شيء آخر)، السعار على أدنى شبهة تضامن؛ يمنع التظاهر، يمنع العلم الفلسطيني، والخريطة، واللافتات الصريحة والمضمرة، وصولاً إلى الكوفية الفلسطينية، التي بإمكانها أيضاً أن تعبّر عن بلد عربي آخر، أو حتى مجرد زي، أو موضة. اعتبرت الكوفية مثلاً تهديداً للسلام. هل يعرفون أن هذه الرموز ولدت قبل «حماس»، ومختلف الفصائل الفلسطينية؟ والأهم أن بعضها ولد قبل إطلاق إسرائيل نفسها؟

اعتُبرت الكوفية تهديداً للسلام. هل يعرفون أن هذه الرموز ولدت قبل «حماس»، ومختلف الفصائل الفلسطينية؟ والأهم أن بعضها ولد قبل إطلاق إسرائيل نفسها؟

يخشى كذلك، في خضم هذه الحمى، أن تُمنع رموز أبسط، خاصة في برلين التي تكتظ بالرموز المجلوبة طازجة من البلاد، كأن يمنع الزعتر الفلسطيني، بل أن يمنع البطيخ من التداول في هذه البلاد، باعتباره يحمل ألوان العلم الفلسطيني الأربعة، وقد حدث بالفعل أن جرى تداوله ورسمه في مراحل مختلفة، وفي ظروف قاسية، كبديل للعلم. وكل الأمل أن لا تصل الأمور إلى حد استبدال العلم في هذه البلاد ببطيخة، فذلك يعني أن الأمور وصلت حداً لا يطاق.

لا يتوقف الأمر على منع تظاهرة، أو رمز، فيبدو أن من يتجرأ على إدانة الدموية الإسرائيلية، أو لمجرد التعبير عن حق الفلسطينيين في بيوت آمنة، وفي حق العودة إلى بيوتهم، سيهاجَم ويهدد، بطريقة أو أخرى، بخسارة موقعه أو وظيفته، كما يحدث مع لاعبي ونجوم كرة القدم.

في فرنسا تبدو الفوبيا وكأنها امتداد تلقائي لفوبيا الإسلام، والمهاجرين والعرب، تلك التي تعبر عن نفسها من وقت لآخر باجتراح ممنوعات، من الحجاب إلى حظر العباءات، وقد يأتي يوم تصبح اللغة العربية نفسها محظورة.

فرنسا، مع مانويل ماكرون ورئيسة حكومته، تخرج عن تقاليدها في التعاطي مع القضية الفلسطينية، وهذا ما يشعل انتقادات لاذعة وغاضبة لدى أحزاب وبرلمانيين معارضين. أحدها مع كلمة الرئيس الشيوعي للكتلة البرلمانية «لليسار الديمقراطي»، أندريه شاسين، الذي ذكّر رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، ، بالموقف التاريخي لفرنسا حيال القضية الفلسطينية: «يجب على فرنسا أن تحمل شعلة السلام، التي تخلت عنها لسنوات عديدة، وأن تكون مبادرة في مجلس الأمن الدولي، لوضع حد لسياسة الاحتلال، وتكرّس نفسها للبحث عن حل الدولتين المتعايشتين».

اليقين السوري

واضح أن هذا «اليقين» الفرنسي ليس نهائياً، ما دام هناك صرخات في قلب البرلمان تطالب بموقف مغاير، هنالك إذاً بعض الأمل بأن يفضي الجدل إلى العودة إلى التقاليد الفرنسية في التعاطي مع القضية الفلسطينية، إلى حد وصلت مع هولاند إلى وعد بالاعتراف بدولة فلسطين، قبل أن يتراجع. لكن اليقين يبدو نهائياً على جبهة بعض المعارضين السوريين، إذ يَشْتَرِطُ بعضُهم، قبل الخوض بأي نقاش، قبل أي إدانة، أن نحدد ماهية «حماس»، ونفكك نشأتها وتاريخها ومستقبلها وارتباطاتها، وعلى الأخص موقفها من النظام السوري، فقد بات هذا معياراً وحيداً ونهائياً، أن نعلن موقفاً منها قبل أن ننطلق إلى باقي التفاصيل. لقد منعوا علينا حتى حق تناول ردود الفعل الدولية، وعلى سبيل المثال ألا يحق لك أن ترى في منع الكوفية الفلسطينية مسخرة، أياً كان موقفك من «حماس»؟

يَشْتَرِطُ البعض، قبل الخوض بأي نقاش، قبل أي إدانة، أن نحدد ماهية «حماس»، ونفكك نشأتها وتاريخها ومستقبلها وارتباطاتها، وعلى الأخص موقفها من النظام السوري!

بالمناسبة؛ هل تجد من المقبول الاشتراط، لإدانة ضربات النظام السوري الكيميائية في الغوطة الشرقية، إظهار موقف من «جيش الإسلام»، أو «هيئة تحرير الشام»، عند قصف النظام وروسيا لإدلب؟

الشاعر المزعوم

في مثل هذه الظروف، تنشر مجلة «لوبوان» الفرنسية مقالة لشاعر سوري معارض مزعوم، اندلعت أشعاره هنا في فرنسا فقط، مستفيداً من تدفق الميديا والاهتمام المنصب على سوريا مع بدايات الثورة فيها، تحت عنوان «لقد تربيت على كراهية اليهود»، وبالطبع سيأتي المانشيت كما يشتهي قلب إريك زيمور، أو مارين لوبين، وسواهما من رعاة التطرف.

لا تقل لي، أخي الشاعر، إنك لا تشعر بمعنى استضافة مجلة يمينية، لناطق بمثل هذه العناوين في مثل هذه الظروف!

وطني ليس بطيخة.. ومتى يحق لك إدانة قتل 700 طفل؟

وسوم: العدد 1054