وقفة مع كتاب : " نحو عالم أكثر عدلا نموذج مقترح لإصلاح الأمم المتحدة "
تأليف : الرئيس رجب طيب أردوغان ( النسخة العربية / طبعة الثانية 2021)
تمهيد : إن الداعي إلى هذه الوقفة مع هذا الكتاب الذي ألفه الرئيس التركي طيب رجب أردوغان وهو رئيس له من الجرأة ما ليس لغيره حين يصدع بالحق في عالم يعج بالباطل والظلم والعدوان في المحافل الدولية وعلى رأسها تلك التابعة لهيئة الأمم المتحدة ،هو الحرب الشرسة ،والقذرة ، واللأخلاقية التي يشنها جيش الصهاينة على المواطنين الفلسطينيين بآلة عسكرية أمريكية مدمرة ، وهو ما يعكس مدى انحطاط أخلاق الصهاينة ومن يساندهم عسكريا وسياسيا وإعلاميا وقد عجزوا جبنوا عن مواجهة صناع طوفان الأقصى ، واختاروا من طرق المواجهة ما تحرمه المبادىء والأخلاق العسكرية من استهداف للمدنيين العزل ، ومن عقابهم العقاب الجماعي ، ومن حصارهم ، ومن تجويعهم ، ومن حرمانهم من التطبيب والعلاج ، ومن تهجيرهم التهجير القسري ... إلى غير ذلك من المثالب الصارخة التي توجد في العسكرية الصهيونية المتنكرة لكل القوانين والأعراف والقيم الإنسانية والمتنصل من الالتزام بها بكل وقاحة ، والمشجَّعة على ذلك ،والمدعومة من طرف الولايات المتحدة والدول الغربية دعما ماديا ومعنويا ، وبالفيتو الجائر، والمستخف بما تقرره قرارات الأمم المتحدة والمتعالي عليها ، والممعن في إذلالها ، وهو ما يسمى في تعبيرنا العامي " غلب الشمايت " أي انتصارالجبناء بالاعتداء على المدنيين العزل.
ولهذا لم نجد ما يناسب لفضح هذه الممارسات الصهيونية التي سكت عنها الشياطين الخرس في هذا العالم أفضل مما جاء في كتاب الرئيس التركي ، وهو يضم وفق فهرسه تمهيدا ، ومقدمة ومدخلا ، وفصلين ، وخاتمة :
الأول عنوانه : المعايير المزدوجة في السياسة الدولية وحاجة الأمم المتحدة إلى إصلاح .
وتحته عناوين كالآتي : معضلات السياسة العالمية / قضية شرعية الأمم المتحدة / قضية العدالة العالمية / أزمة اللاجئين / قضية الإرهاب الدولي / رُهاب الإسلام أو الإسلاموفوبيا / مشكلة فاعية الأمم المتحدة وتأثيرها / قضية الشمول والتمثيل / قضية الحوكمة العالمية .
الثاني : خصص لمقترح إصلاح الأمم المتحدة
وتحته عناوين كالآتي : إصلاح الأمم المتحدة / الحاجة إلى الإصلاح / مبادىء تهدف إلى إصلاح الأمم المتحدة / المشاكل التي تعاني منها مقترحات الإصلاح الحالية / مقترح ذو مبدأ وشمولية واستراتيجية / العدالة في التمثيل / العلاقة بين الجمعية العامة ومجلس الأمن / إلغاء حق الفيتو / مقترح قابل للتطبيق .
ومن خلال عناوين الفصلين يتبين أن مؤلف الكتاب يعالج أمرين هما:
ـ أولا : تشخيص أوضاع عالم اليوم من خلال استعراض المشاكل الأزمات التي تعصف به، والتي يبدو أنه لا مخرج منها.
ـ ثانيا : تقديم نموذج اقتراح لإصلاح الأمم المتحدة التي يكمن خلاص عالم اليوم في إصلاحها.
بالنسبة للتشخيص انطلق المؤلف أولا من وضع العالم بعد فترة الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي ، وتحول العالم من صراع القطبين إلى سيادة القطب الواحد متمثلا في الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين . وانطلق بعد ذلك من حادثة حلول وباء الكوفيد 19 بكل أقطار المعمور ، الشيء الذي جعل القناعة السائدة لدى الجميع أنه لا مناص من الاستفادة من التجربة المريرة للجائحة ، وذلك من خلال التعاون بين الجميع لمواجهة كل ما كان على شاكلة خطرها ، خصوصا وأن الدول العظمى انشغلت بتلقيح شعوبها وتطبيب المصابين ، بينما تلك الدول الضعيفة تعاني وتواجه خطر الجائحة وحدها دون إمكانيات .
وقبل تشخصيه لواقع عالم اليوم ، ذكّر بالوضع العالمي بعد الحرب العالم الأولى، حيث فشلت عصبة الأمم المنبثقة عن الدول المنتصرة في تجنيب العالم حربا ثانية مدمرة . وهو يرى الوضع العالمي اليوم أشبه بما كان عليه في فترة ما بين الحربين العالميتين ، الشيء الذي ينذر بحرب عالمية ثالثة إذا لم تبذل الجهود الجادة لوقوعها .
أما تشخيصه، فتركز على تراكم مشكلات العالم التي تحول معظمها إلى معضلات ذكر منها ما هو سياسي ، ومنها ما هو اقتصادي ، ومنها ما هو أمني ، ومنها ما هو بيئي ، ومنها ما هو صحي ، ومنها ما اجتماعي، وهي كالآتي:
1 ـ مشكل الشرق الأوسط المتمثل في الصراع الناتج عن الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين ،وقد طال لما يزيد عن سبعة عقود ، ولا زالت تداعياته على المنطقة بأسرها تتناسل ،وهو مشكل عجزت الأمم المتحدة عن إيجاد حل له يكون عادلا ودائما بسبب عرقلة بعض دول الفيتو ما تصدره الأمم المتحدة من قرارات فاقت المائة قرار ،ظلت حبيسة رفوف هذه المنظمة يعلوها الغبار، في حين أن هناك قرارات غيرها جمدت ، و لم تفلح حتى في الوصول إلى مرحلة الطرح للنقاش والتداول.
2 ـ مشكل الغزو الأمريكي والغربي للعراق وتدميره بذريعة امتلاكه أسلحة دمار شامل تبين فيما بعد أنها محض ادعاء كاذب ، وتفسيمه إلى أعراق وطوائف ، وذلك على إثر أحداث الحادي عشر من شتنبر وتداعياتها على كامل منطقة الشرق الأوسط ، فضلا عن غزو أفغانستان بذريعة محاربة الإرهاب.
3 ـ مشكل إجهاز الثورات المضادة لثورات الشعوب العربية المطالبة بالديمقراطية والحياة الكريمة في ربيعها العربي ، والتي تسببت في صراعات وصدامات وحروب أهلية في كل من سوريا التي شهدت دمارا كبيرا بسبب استبداد نظامها الذي قتّل الآلاف ، وتسبب في تهجير ما يزيد عن عشرة الملايين ، أربعة منها في تركيا وحدها ، والحرب في اليمن ،والحرب في ليبيا بين المتصارعين على السلطة .
4 ـ مشكل التهجير والهجرة نحو الدول الغربية فرارا من الاضطهاد والاستبداد ، ومن الصراعات الدامية ، وهلاك النازحين عن بلدانهم في عرض البحار غرقا.
5 ـ مشكل الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت سنة 2008 ولا زالت مستمرة بل ازداد تأزمنا وتناسلت تداعياتهم على حياة البشر .
6 ـ مشكل التلوث البيئيي المسبب للاحتباس الحراري الشيء الذي عمّق الأزمة الاقتصادية الخانقة والذي له تداعيات إلى البيئة والإنسان على حد سواء .
7 ـ مشكل الجفاف والقحط والمجاعات المهددة لملايين البشر .
8 ـ مشكل وباء الكوفيد 19 الذي تسبب في هلاك أعداد هائلة من البشر في كل بلاد المعمور بما فيها البلاد المتقدمة .
9ـ مشكل الإرهاب سواء إرهاب الأفراد والجماعات كتلك التي نشأت بعد غزو العراق وأفغانستان أو إرهاب الأنظمة المحتلة، والأنظمة المستبدة الشمولية .
10 ـ مشكل استفحال الكراهية لأسباب دينية ،كما هو الشأن بالنسبة للدين الإسلامي ، وهي كراهية أفرزت ما يسمى بالإسلامو فوبيا التي نشأ عنها الاعتداء على المسلمين ، والتضييق عليهم في ممارسة حرية تدينهم ، وكذا كراهية اللاجئين الفارين من الحروب ، ومن الظلم في بلدانهم، ومعاملاتهم في مهاجرهم بتمييز عنصري وعرقي ، في دول غربية تتبجح بالدفاع عن حقوق الإنسان .
وأمام كل هذه المشاكل التي استفحلت ، وصارت معضلات ، تقف المنظمات الدولية والإقليمية عاجزة عن حلها ، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة بجمعيتها العامة ،ومجلس أمنها . ولقد فشلت هذه المنظمة كما فشلت عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى لأنها كانت عصبة تخدم مصالح الدول الأوروبية المحتلة لبلدان غيرها واستغلالها ، وهي التي خرجت منتصرة في الحرب ، الشيء الذي تسبب في تدهور أوضاع العالم يومئذ ، و اندلاع الحرب العالمية الثانية التي كانت مدمرة للإنسان والعمران والاقتصاد .
ويرى مؤلف الكتاب أن الوضع العالمي الحالي أشبه ما يكون بما كان عليه الحال قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية بسبب فشل منظمة الأمم المتحدة التي هي نتاج وضعية ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي انفردت فيها الدول المنتصرة بصناعة القرار من خلال استغلال حق النقض الفيتو من أجل خدمة مصالحها السياسية والاقتصادية معطلة تفعيل الشعار الذي رفعته المنظمة العالمية يوم تأسيسها، وهو الدفاع عن السلام، والأمن، والاستقرار،والعادلة ، والنمو الاقتصادي ...
ويرى المؤلف أن عالم اليوم قد أقبل على مرحلة جديدة تجاوزت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وكذا مرحلة الحرب الباردة ، ومرحلة هيمنة القطب الواحد ، وهذا يقتضي ضرورة إصلاح منظمة الأمم المتحدة كي تساير المرحلة الجديدة، وتكون قادرة على حل المشاكل العالمية الكبرى العالقة .
ويعزو المؤلف عجز وفشل منظمة الأمم المتحدة في حل مشاكل عالم اليوم إلى فيتو الدول الخمس الدائمة العضوية ، وهو الذي يشل فعالية قراراتها ، ويمثل لذلك بتعطيل قرارات فاقت المائة صدرت ضد الكيان الصهيوني بسبب الفيتو الأمريكي والأوروبي ، وهو في دعوته لإصلاح هذه المنظمة الدولية، يرفع شعار العالم أكثر من خمسة ، وهو يقصد دول الفيتو التي تستعمله لخدمة مصالحها على حساب كل دول العالم خصوصا الدول النامية ، لهذا يطالب بإنهاء بقائها تحت رحمتها ،لأن عالم يوم قد تجاوز فكرة هيمنة القطب الواحد الذي تمثله الولايات المتحدة المتحكم في الوضع العالمي إلى فكرة ضرورة التعددية الدولية ، وتقاسم الأدوار ببنها لصالح البشرية قاطبة دون تمييز بينها على أسس عرقية أو ثقافية أو دينية . وهو ينتقد ألا يكون لتجمعات بشرية كبرى في العالم التمثيل المناسب لكثافتها في المنظمة العالمية الحالية ،كما هو الحال بالنسبة للقارة الإفريقية، والبلاد العربية والإسلامية ،وجزء كبير من البلاد الأسيوية.
وبعد إسهاب في سرد أمثلة لمشاكل العالم في مختلف البلدان التي تعاني شعوبها من الجفاف ، والقحط ، والجوع، والحروب ، والاستبداد السياسي ، والأوبئة ... يقدم مقترحا يراه إجرائيا لإصلاح منظمة الأمم المتحدة ، وبديلا عما يروج من محاولات إصلاحها يراها غير مجدية وهي ستزيد من تأزم الوضع العالمي كتوسيع دائرة دول الفيتو من خلال ضم بعض الدول المطالبة به كألمانيا ، واليابان ، والبرازيل ، وكوريا الجنوبية.
والمقترح الذي يقدمه المؤلف هو إعطاء الجمعية العامة صلاحية التشريع بحيث تكون لها سلطة تشريعية إلى جانب سلطة المراقبة والمحاسبة ، بينما تكون لمجلس الأمن سلطة التنفيذ مع إلغاء حق النقض الفيتو بالنسبة للدول الخمس الدائمة العضوية . ويقترح أيضا أن يزداد عدد أعضاء مجلس الأمن بحيث يصير عشرين عضوا مع تناوب جميع دول العالم على هذه العضوية بعد مدد محددة .
ويرى أردوغان أن دول الفيتو الخمس لن تقبل بالتخلي عنه ، ولكن إذا ما اجتمعت معظم دول العالم، وظلت تطرح هذا الإصلاح للمنظمة العالمية ، فستجعلها في وضعية حرجة لا مناص لها من الاقتناع بضرورة وحتمية الإصلاح إذا ما أريد الاستقرار، والأمن، والسلام ، والعدل في المعمور ، وإلا فإن الوضع الحالي ينذر بحرب ثالثة محتملة ، تكون عواقبها وخيمة، وقد بدأت تلوح بوادرها .
وقبل التعقيب على ما جاء في هذا الكتاب ، نود الإشارة إلى أن هذه الوقفة الوجيزة معه لا تغني عن الاطلاع على مضمونه .ونشير إلى أن الإصلاح الذي يقترحه الرئيس التركي أردوغان بالرغم من عدالته وإجرائيته ، فإنه سيصطدم لا محالة بمعارضة شديدة خصوصا من دول الفيتو التي لا تعنيها سوى مصالحها في هذا العالم ، ولا مصالح لها إلا في عالم يعج بالفوضى، والصراعات، والحروب ، والهجرات ، والأوبئة ... وكل ذلك يخدم مصالحها إلا أن ما حذر منه صاحب هذا الكتاب واقع لا محالة إذا لم تتراجع دول الفيتو عن سياساتها المتغطرسة التي تشكل خطورة عليها، وعلى باقي دول المعمور .
وأخيرا سيسجل التاريخ أن كتاب أردوغان هذا عبارة عن رسالة إصلاح، وسلام ، وأمن، وعدالة، لم يبادر بمثلها زعماء سجل التاريخ عنهم دورهم في بؤس عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حدود الساعة . ولا شك أن جرائم حرب الإبادة الجماعية الدائرة اليوم في قطاع غزة، قد تكون الشرارة القادحة لحرب عالمية ثالثة أكثر تدميرا ـ لا قدر الله ـ كما توقع الرئيس التركي في كتابه ، وهو ما ظل يردده منذ توليه رئاسة تركيا ، فهل ستجعل هذه الشرارة الخطيرة دول الفيتو المكابرة تراجع حساباتها قبل فوات الأوان ؟
وسوم: العدد 1057