أَصَبْتَ فَالْزَمْ
ليست رؤيا في ليلة من ليالي السعادة التي قد يعيشها الناس في حياتهم الدنيا هذه ، وليست قصة من القصص التي يبدع فيها أهل الأدب ، أهل المواهب والقدرات في علم البلاغة ، ولكنها صورة من صور الخلود جاءت في حياتنا الدنيوية الفانية . جاءت واضحة كشمس الضحى في يوم مشمس ، وليس لأحد أن يكذبها ، أو يقوم بتأويلها حسب الأهواء أو الدوافع التي بارت تجارتُها . إنَّها الحقيقة التي دفعت اليوم الكثير من غير المسلمين أن يقبلوا على قراءة القرآن الكريم ، وعلى سُنَّة نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ليقفوا على مافيها من أسرار تجلَّت في أحوال أهل غزة بعد تدمير منازلهم ، وقتل أطفالهم ونسائهم ، واستباحة ما في مغانيهم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس من مقدسات غاليات وقيم ساميات .
احتضن الأب ابنته الصغيرة الجميلة الشهيدة وقبلها بين عينيها ، ووجهُها مشرق وكأنها تنام وهي سعيدة أشدَّ ما تكون السعادة ، وعاد وضمَّها مرة أخرى وأخرى وأخرى قبل أن يسلمها إلى أحضان الكفن الأبيض الذي أعدَّه المرابطون لهذه الطفلة ، ولغيرها من الشهداء والشهيدات الذين تجاوز عددهم اثني عشر ألف شهيد وشهيدة ، وقافلة الشهداء تزداد كل ساعة من الجرحى الذين حُرموا من العلاج ومن الدواء ومن كل احتياجات الجرحى والمصابين .
صعدت روح هذه الطفلة البريئة إلى بارئها سبحانه وتعالى بعد أن سلمها والدها لقافلة الشهداء الأبرار ، ليعودَ إلى بيته ، ليجدَ أفرادَ أسرته يتلون كتاب الله تعالى ، ووجوههم مشرقة بأنوار الطمأنينة ، وألسنتهم تلهج بحمد الله تعالى ، وفي البيت أُخرياتٌ من الجارات والأرحام جئن يعزين الأم المكلومة لِما أصابها بفقد صغيرتها الجميلة الشهيدة ، ودموعهن تسيل على خدودهن ، إنه الموت الذي سمَّاه ربُّنا عزَّ وجلَّ ( مصيبة ) في محكم كتابه الكريم . أجل إنه الموت الذي لن ينسى صغيرا أو كبيرا إذا حان الأجل . ولعل الكثير من الناس نسوا أو تناسوا موعدهم مع الموت ، حيث أشغلهم ما في هذه الدنيا من متاع زائل ، ومن زخرف فتان ، فحجب عن بصائرهم مشاهد اليوم الأول من بداية حياة الخلود الأبدية ، نسوا الموقف يوم الحساب ، ونسوا نار جهنم وما في درجات جهنم من العذاب ، وكذلك الجنة وما فيها من نعيم مقيم ، يتوق إليه المؤمنون الصَّالحون ، وتشتاقه أنفسُهم إليه ، وإلى رؤية نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء عليهم جميعا صلوات الله وسلامه ، ورؤية الله تبارك وتعالى التي لايمكن وصفها ولا الإحاطة بكيفيتها ، ولكنها رؤية حقيقية يؤكد فيها ربُّنا سبحانه ما للفائزين بجنته ورؤيته من مقام عال ، ومكانة عظيمة تتضاءل أمامها الحياة الدنيا بما فيها من جاه وسلطان وأموال والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ، وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا الفانية . واليوم أول أيام الخلود حيث تُطوى صفحة حياة الابتلاء والنصب ، وتنتهي حكايات الظلم واستعبداد الإنسان لأخيه الإنسان ، وتنتهي المعاناة وأسبابها الكثيرة ، فدار الخلود هي الدار الحقيقية الباقية الخالدة التي لاتبلى ، وليس فيها إلا السعادة المطلقة التي لايمكن لمخلوق أن يصف تفاصيلها أو أن يحيط بنوع التمتع بطعامها وشرابها ، وما أعده الباري للناجين من عباده .ونعود مرة أخرى إلى الأخت التي كانت تعزي أم الطفلة الشهيدة ، ونصغي إلى ما قالته المكلومة.....
تقول التي قامت بواجب التعزية : جئتُ إليها وكنت والله حزينة أشدَّ الحزن على استشهاد الطفلة ، وعلى ماتعانيه هذه الأم جرَّاء هذه الفاجعة المؤلمة ، قبلَّتُ رأسها وبدأتُ بالكلام بما تعلمناه من أهلها في مثل هذه المواقف ، وسالت من عينيَّ الدموع ، فمدَّت يدها ومسحت الدموع التي سالت ، وقالت لي : جزاك الله خيرا يا أختي ، وأسأل الله أن لايريكم مكروها . ابنتي رجعت إلى بارئها الذي وهبني إياها ، وإنني مطمئنة والله أنها وجدت عند ربها خيرا ونعيما وسعادة أكثر بكثير مما وجدته عندنا . وأنا أشعر بفرح غامر في أعماق نفسي ، لأن الله تكفل بها ، ومنْ، تكفَّل اللهُ به فلا يخاف ولا يخشى . إنه الله ربنا وخالقنا ، وهو سبحانه مَن هدانا وآوانا وجعلنا من المؤمنين ، وهذه من أجلِّ نعم الله علينا ، إنها نعمة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وبالقضاء والقدر خيره وشره ، وأن كلَّ ماقدره الله للمؤمن به فهو خير ، والله يفعل مايشاء ويحكم مايريد
ولعل الله سبحانه وتعالى يجمعني بابنتي الشهيدة في الجنة ، مع بقية إخوتها وأخواتها وجميع أهلنا ومعارفنا ، ويومئذ يا أختي الفاضلة تكون الفرحة الغامرة التي تنسينا كلَّ معاناتنا في حياتنا هذه ، ويومها ينال الذين قتلوا أبناءَنا وهدموا ديارنا وحرمونا من الطعام والماء والدواء من عذاب الله ما لاتطيقه الجبال الراسيات . وأما المسلمون الذين نالتهم المصائب فإنهم يومئذ فيي مقعد صدق عند مليك مقتدر . في جنات ونَهَر عند مليك مقتدر . ثم تلتْ قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) 23/24 الحج .
تقول التي جاءت تعزي أم الشهيدة : والله شعرت أنها هي التي تعزيني على بعدي عن هذا الإيمان العميق ، وكأنها ترى الجنة عيانا ، وترى النار عيانا ، وقد التزمت بما آمنت وعرفت بعين بصيرتها الحقيقة الزاهرة في كتاب الله تبارك وتعالى . خرجتُ من عندها وفي قلبي فيض من الحنين ، واستذكرت وأنا أودعها وأنظر في عينيها الحديث النبوي الشريف ، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي رجلا يقال له: حارثة، في بعض سكك المدينة، فقال: (كيف أصبحت يا حارثة؟ ) قال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: ( إن لكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ ) قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي، وكأني بعرش ربي بارزا، وكأني بأهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها، وكأني بأهل النار في النار يعذبون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أصبت فالزم، مؤمن نور الله قلبه) .
فذكِّرْ إنْ نفعت الذكرى :
*(وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ*لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) 25/26 يونس .
*(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ*فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ*كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ*وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ*وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ*يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ*وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ*وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ*قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ*فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ*إنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) 17/ 28 الطور .
بأهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها، وكأني بأهل النار في النار يعذبون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أصبت فالزم، مؤمن نور الله قلبه)..
وسوم: العدد 1062