التُّراث.. وأحاديث الخرافة! (قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)
قال (ذو القروح) وهو يحاول الخروج من عباءة جدليَّاته المعتادة حول المرأة والنِّسويَّة:
ـ هل تعلم أنَّه قد زُعِم في تراثنا أنَّ لـ(أبي الوفاء علي بن عقيل بن محمَّد بن عقيل الحنبلي، 431- 513هـ= 1119- 1040م)، كتابًا بعنوان "الفنون"، جاء في 800 مجلد، وقيل إنَّه أكبر كتاب في الدنيا! غير أنَّ ما بقي منه وطُبع في العصر الحديث هو في نحو 800 صفحة فقط! ويبدو ذلك المطبوع هو الكتاب كاملًا، وإنْ زُعِم أنَّ بقيته إنَّما ضاعت.
ـ بل هو أكبر مؤلَّفٍ فرديٍّ في التاريخ، إنْ صحَّ ما وردَ عنه! كيف تفسِّر ذلك؟
ـ بداية لا بدَّ من إدراك مفهوم (مجلَّد) في التُّراث، أو (مجلَّدة). فهو مِثل مصطلح (كتاب)، الذي قد يشير قديمًا إلى رسالةٍ شخصيَّة، أو كُتيِّبٍ صغير، أو مؤلَّفٍ كبير. غير أنَّ مُقدِّسي السَّلَف تعجبهم مثل هذه المبالغات. وإلَّا فإنْ صحَّت الرواية، فهي إنَّما تعني 800 صحيفة. ولو أعمل هؤلاء عقولهم، لأدركوا أنَّ تأليف 800 مجلَّد، بما تعنيه كلمة مجلَّد من معنى في الأذهان اليوم، حديث خرافة، حتى لو أنَّ المؤلِّف إنَّما كان ينسخ تلك المجلَّدات نسخًا، ولا يؤلِّفها تأليفًا. لأنَّ ذلك بمنطقٍ حسابيٍّ يعني أنَّه كان يُنجِز سنويًّا تأليف أكثر من تسعة مجلَّدات، وأنَّه قد بدأ هذا منذ ولادته! أي إنَّه يؤلِّف في كلِّ شهرٍ من حياته مجلَّدًا تقريبًا، خلال عمره، 82 سنة، من 431- 513هـ. ولكَم في تراثنا من أحاديث خرافة، يا أُمَّ عمرو؟!
ـ أُمُّ عمرو غير موجودة! ولكن ما الجديد؟
ـ لا جديد سِوَى تقديس السَّلَف.
ـ كيف؟
ـ سأضرب لك مثلًا تاريخيًّا وعالميًّا مشهورًا.
ـ اضرب، يا عمِّي، ولا يهمك!
ـ الزَّعم بألوهيَّة البَشَر.
ـ أ إلى هذا الحدِّ يمكن أن يصل عقل الإنسان؟!
ـ أجل، فيتفوَّق على الحيوان في خبَله! وإذا طرحنا هذا السؤال حول أشهر إنسان مؤلَّه في التاريخ، وهو السيِّد المسيح، لزم أن نسأل: آليهود هم من اصطنعوا ألوهيَّته، ليُفسدوا دِيانة النَّصارى بأفكارٍ وثنيَّةٍ وخزعبلاتٍ أُسطوريَّةٍ تُناقض العقل والدِّين معًا؟
ـ أ وليست بداية هذا التصوُّر عن المسيح ومنطلَق العقيدة العجيبة فيه من قِبَل (بولس الرسول)؟
ـ بلى. ولكن مَن بولس هذا؟ لقد كان يهوديًّا، يضطهد المسيحيِّين ويلاحقهم. وربما كانوا يُسمُّونه (شاوُل)، ثمَّ، وبقدرة قادر، تاب الله عليه، فتحوَّل إلى مبشِّرٍ بـ(يسوع)، وذلك في عام 43م، بعد رؤيةٍ مناميَّةٍ رآها! وهو مؤسِّس عقيدة أنَّ "المسيح ابن الله"!
ـ وما زالت الرُّؤى والمنامات تُشكِّل بعض العقول والأحداث!
ـ أجل! ولقد وجدتُ (جلال الدِّين الرومي) يشير إلى ما يشبه هذه الفكرة، من خلال أُقصوصةٍ تحت عنوان "حكاية الملك الذي كان يقتل النصارى بسبب تعصُّبه". حيث جعل يُصوِّر كيف أنَّ وزير الملك استطاع إقناعه بأن يمكر بالنصارى؛ لتحريف دِينهم، من خلال هذا الوزير، بأن يلعب بينهم دورًا يُشبِه دور المسيح الدجَّال، وكأنه (بولس الرسول).(1) وتلك أُقصوصة اعتباريَّة تتكرَّر مع الأديان، والعقائد، أو الجماعات التي تربطها روابط أرضيَّة أو غيبيَّة.
ـ كلُّ مصائب البشريَّة ظلَّ يعزوها النموذج النمطي في التحليل والاستدلال إلى اليهود.
ـ لا تنس هنا أن مثل تلك المحاولة "البولسيَّة" قد وقع كذلك في الإسلام، في ما نُسِب إلى (عبدالله بن سبأ)، من ادعائه ألوهيَّة (عليِّ بن أبي طالب)، كما تروي الحكايات التاريخيَّة المشتهرة؟
ـ مهما يكن، وبغضِّ النظر عمَّا يُنسَب إلى (بولس) و(عبدالله بن سبأ)، فإنَّ تأليه الإنسان يبدو نزوعًا وثنيًّا قديمًا.
ـ هذا صحيح. وقد ظهر قبل هذا وذاك في وادي الملوك بـ(مِصْر)، أُمِّ الدُّنيا وأُمِّ الأديان القديمة.
ـ ونحن نعرف في هذا السياق أيضًا قِصَّة الإلٰهة (إيزيس) العذراء الأُسطوريَّة التي تلد (حورس)، بلا زوج، فيصبح إلٰـهًا، في اعتقاد المِصْريِّين القُدماء.
ـ وعلى ذِكر الفراعنة، ما زلنا نقرأ الآيتَين القرآنيَّتَين: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَا هَامَانُ، ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ؛ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَٰهِ مُوسَى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا"(2)، ونقرأ الآية الأخرى: "وقَالَ فِرْعَوْنُ: يَا أَيُّهَا المَلَأُ، مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي، فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ، فَاجْعَل لِـي صَرْحًا؛ لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَٰهِ مُوسَى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ"(3)، ولا نُدرِك المعنى.
ـ ماذا تقصد؟
ـ كيف سيبني (هامان) صرحًا لفرعون؟
ـ ثمَّ كيف سيبلغ ذلك الصرح درجة اطِّلاع فرعون إلى إلٰه (موسى)، مهما بلغ ارتفاع الصرح في السماء؟!
ـ التصوُّر السائد تصوُّرٌ طفولي، وكأنَّ فرعون إنسانٌ أحمق حين يطلب مثل ذلك الطلب! وأنت حين تعود إلى كُتب التفسير، لا تجد تفسيرًا معقولًا. ولقد ساق (الطبري)(4) تفسيرًا ينبني على ظاهر الآيات من جهة، وعلى بعض المرويَّات الإسرائيليَّة- كالعادة- من جهةٍ أخرى(5)، فتُظهِر فرعون في صورةٍ فكاهيَّةٍ لحاكمٍ معتوهٍ بالفعل. قال: "فذُكِر لنا أنَّ هامان بنَى له الصَّرح، فارتقَى فوقه... فأمرَ بِنُشَّابةٍ فرمَى بها نحو السماء، فرُدَّت إليه وهي مُتلطِّخةٌ دمًا، فقال: قد قتلتُ إلٰه موسى، تعالى الله عمَّا يقولون!" وهو ينقل هذه الأُقصوصة الفكاهيَّة لتفسير الآيات القرآنيَّة مطمئنًّا إليها، عن بعض يهود! وقد ظلَّ هذا التصوُّر الساذج، حتى جاء بعض علماء المِصْريَّات المعاصرين ليتوصَّلوا إلى أنَّ الأهرامات لم تكن مدافن موتَى أساسًا، وإنْ استُعمِلت لذلك أحيانًا، بل كانت بمثابة مراصد فلكيَّة.(6) ومن هنا قد نستطيع الآن فهم الآيات فهمًا جديدًا. فلعلَّ هذا ما كانت تشير إليه في طلب فرعون من هامان؛ إذ أراد أن يستكشف الكون، بحثًا عن علامات حِسيَّة على الإلٰه المزعوم من (موسى).
ـ ماذا عن غير المِصريِّين؟
ـ ظهر تأليه الإنسان لدى غير المِصريِّين في مختلف أصقاع الأرض تقريبًا. ومن هذا تلك الأساطير الهنديَّة المتعلِّقة بالإلٰه (كريشنا).(7) على أنَّ هجرات الأديان في العالم، وتناسلاتها، ودوَّامات تشكُّلاتها، بلا حدود. وما أكثر ما تتشابه، أو يقتبس بعضها من بعض!
ـ غير أنَّه- وَفق معايير البحث المقارن- يغدو من التسرُّع غير العِلمي القطع بأصلٍ، ما لم تقم قرائن تاريخيَّة بينه وبين ما يُظَنُّ من تفرُّعاته، حسب المدرسة الفرنسيَّة التقليديَّة في الدرس المقارن.
ـ وإذا كانت القرائن التاريخيَّة شرطًا منهاجيًّا في مقارنات الآداب، على سبيل المثال- التي لا تعدو تجارب فرديَّة أو اجتماعيَّة أو قوميَّة محدودة، تظلُّ لها شخصيَّاتها المستقلَّة نِسبيًّا، ومكوِّناتها العائدة إلى تجارب زمكانية محدَّدة- فإنَّ ذلك آكَدُ في مجال مقارنة الأديان. هذا إنْ أجدَى نفعًا مثل ذلك الشرط المنهاجي في الخروج من تلك المتاهة الأزليَّة بنتائج شِبه عِلميَّة يمكن الركون إليها؛ وذلك للطبيعة الزئبقيَّة الموَّارة للموضوع، فضلًا عن غياب الوثائق المادِّيَّة، التي تستحق هذا الاسم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الرومي، جلال الدِّين، (1966)، كتاب المثنوي، تحقيق: محمَّد عبد السلام كفافي، (صيدا- بيروت: المكتبة العصريَّة)، 103- 111.
(2) سُورة غافر: الآيتان 36- 37.
(3) سُورة القصص: الآية 38.
(4) (2001)، تفسير الطَّـبَري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة: دار هجر)، 18: 256.
(5) ولقد غرسَ اليهودُ في العَرَب عُقدة النقص هذه منذ الجاهليَّة؛ بوصفهم إيَّاهم بأنَّهم أُمِّيُّون، وليسوا بأهل كتاب. ويبدو أنها بقيت هذه العُقدة بعد الإسلام، وبعد مجيء الكتاب المهيمن؛ إذ ظلَّ المسلمون ينظرون إلى اليهود نظرة إجلال؛ لتوهُّم عِلْمهم الكِتابيِّ القديم، الذي لا سبيل إليه إلَّا عن سبيلهم. بل لعلَّ تلك العُقدة قد تفاقمت بعد الإسلام لأسباب دِينيَّة أخرى. ولهذا لا غرابة أن يتكئ المؤرِّخون على الإسرائيليَّات، بل يتكئ المفسِّرون عليها لتفسير "القرآن"، وكثيرًا ما كان المؤرِّخ مفسِّرًا والمفسِّر مؤرِّخًا؛ لأن البضاعة الإسرائيليَّة تصلح لديه لهذا وذاك. ومن هنا، مثلًا، كان المرجع العُمدة لدَى ("الإمام" أبي جعفر محمَّد بن جرير الطبري)، في كثيرٍ ممَّا يرويه عن الغيبيَّات وبدء الخلق: (عبدالله بن سلام)، و(كعب الأحبار)، و(وهب بن منبِّه)، وأضرابهم؛ فهم، بحسب نعته إيَّاهم: "السَّلَف من أهل العِلْم"!
(6) يُنظر، مثلًا: صحيفة "الوطن" المِصْريَّة، الأحد 17 نوفمبر 2019:
https://www.elwatannews.com/news/details/4424356
(7) لمزيد تفصيلٍ يمكن للقارئ العودة إلى كتاب:
Doane, Thomas, (1882), Bible Myths and their Parallels in other Religions, (New York: The Commonwealth Company).
وكذا كتاب: (التَّـنِّير البيروتي، محمَّد الطاهر بن عبد الوهاب بن سليم (-1352هـ= 1933م)، (1989)، العقائد الوثنيَّة في الدِّيانة النصرانيَّة، تحقيق ودراسة: محمَّد عبدالله الشرقاوي، (القاهرة: دار الصحوة)). أمَّا الآلهة في "العهد القديم"، فحدِّث ولا حرج! (انظر: فريزر، جيمس، (1972)، الفولكلور في العهد القديم، ترجمة: نبيلة إبراهيم، مراجعة: حسن ظاظا، (القاهرة: الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب).
وسوم: العدد 1062