رسالة إلى العرب كافة
أريد من أمتنا العربية، التي كثرت عليها الأحداث والخطوب، وتدافعت عليها الأرزاء والمحن، أن تدرك أنها اليوم أقرب فعلا إلى الموت، وأدنى إلى الفناء، فكل بقعة في محيطها، تتدافعها المنايا، ويتقاذفها البلاء، هي وحدها في هذا العالم، لا تستطيع أن تدروء عن نفسها مرارة الحزن، ولذع الآلام، ومهما تفاقم عليها الردى، وطافت بها الأسقام، فلن تجد من يحنو عليه، أو يعبأ بها، أو يكترث لها، أويهز واقعها هزا عنيفا أو خفيفا، فالناس كل الناس، يذهبون ويجيئون، في عوالمهم المترفة الثرة، تشغلهم رباهم البديعة، وغدرانهم الجارية، و عشبهم الأخضر، وشمسهم البره، عن واقعها الخطير، ومآلها المرير، إن حياة الغرب المتورط في ترويعنا، جميلة هادئة، لا لوم فيها ولا عتب، ولا قسوة فيها ولا تنكيل، يتناولون أقداح الشاي في غرفهم المغلقة، كلما أقبل صبح مشرق، وأدلهم ليل بليل، ولا يحسنون شيئا بعد تأدية وظائفهم، التي يخلصون إليها أشد الإخلاص، كما نخلص نحن لمن نحب في مستهل حياتنا، فهم بعد أوبتهم من أعمالهم، التي يبذلون فيها جهد جم، وضنك كريه، يظهرون فروض الخضوع والطاعة، لمخايل التقاليد في مدنهم الباسمة اللاهية، تلك المدن التي لا تنكر السعادة أو تضيق بها، كما تضيق مدننا بها، فمدنهم تكره الكأبة وتخافها خوفا شديدا، مدنهم تسرف في المجون والعبث، كما يسرف قاطنيها في الجد والانتاج، ولا يبتغون شيئا في دنياهم غير أن تتضاعف حظوظهم من اللذة والفتون، فأيسر ما يتحدث عنه الغرب -الذي هو مصدر شقائنا الذي نعيشه- أيسر ما تلوكة الألسنة عندهم هي جرائم السحل والقتل، التي لا تشوبها ألوان الغفلة، أو تطويها أعنة النسيان إلا بعد جهد عنيف.
أنا أريد الآن أن أدع هذه المقدمات، وأخلص إلى جوهر الموضوع، فنحن الأمة الوحيدة في هذا الكون التي ينهش العدو كبدها نهشا، فتظل جامدة، لا تتحرك ولا تصول، أمة متباينة أشد التباين، يمضي أغلبها محروق الحشا، محزون القلب، كئيب الوجه، معتلج الشعور، بينما تنظر إلى محياها الآخر، فتجده باسما هازئا منبسط الأسارير، تلوح على نفس هذه الطائفة التي لا تهدأ ولا تستقر، معاني البهجة والسرور، فهم منخرطون في حركة متصلة خصبة، لا علاقة لها بالتناسق والنظام، ولكنها كفيلة لأن تجعل النشوة تفور وتثور، تمتزج الأيادي وتتشابك، بائتلاف الأنغام الصاخبة وعبق البخور، تتأود أغصان الحسان من ردم الموسيقى، وتبتسم الثغور، والأسد الهصور في غزة، نعجز أن نستقصي قصته في سطور.
تنظر غزة حولها، وقد أخذتها عبرة شديدة، علها تجد صدى غير هذا الصمت العميق، بعد أن أضحت وحيدة، فكأن ألسنة الناس قد انعقدت على أن تنطلق بها كلاما، فهي ما زالت تجهل أن العربي الذي طاف حول اللذة وحاما، لم تعد تعينه القدس، ولا يعنيه شرف فلسطين أن ينتهك وأن يضاما، والسودان هناك في الضفة الأخرى قد أضحى حطاما، فذكره عندهم خفيف فاتر، وهو أتفه من قلامة، وأقصى غاية من الرضى يتحفه بها صاحب الحوبة والسنام والحساما، أن يبذل قدرا غير مألوف حتى يستحضر إسم عاصمته التي دفعت عن حاضتنه الموت الزؤاما.
حالنا أيها السادة، من غير شك مثير للذة والامتاع، فالعدو سعيد مغتبط، لأن قضايانا الملحة، لا تثير في أفئدتنا عاطفة، ولا نستطيع اخضاعها لما تضطرب به نفوسنا، التي لم تعد ترعى لشيء حرمة، إن الايقاع الذي يجب أن ينتظم، ليشيع في مهجنا من رضى أو كره، هو النبض أو النمط الذي يدور حول معاني النصرة، النصرة التي يجب أن تنطلق بها الألسنة، وتجري بها الأقلام، نصرة السودان، ونصرة غزة، ونصرة اليمن على بريطانيا والأمريكان، ونصرة الصومال، والاقبال على التضحية، فعدونا المنخوب القلب يضيق بالتضحيات الجسام وينفر منها، إن الصورة الجميلة التي يجب أن ترتسم في أذهاننا، هي صورة تلاحمنا وتكاتفنا، بعد أن طهرنا أفئدتنا من أوضار الأحقاد والسخائم، وأقبلنا على شواغل، لا تضطرب حولها الخواطر والآراء، بعد أن أمطنا عنها أمارات البله والغفلة، فأتينا من الحركات، وأظهرنا من الأشكال، ما يجعل العدو يجد في قصة تضامنا هذا ويجتهد، حينها فقط نستطيع أن نخلص الثناء ونجمله، في اسراف، واغراق، وجموح، لمقاومة باسلة، وشرفاء أماجد، هدوا الناس، وعصموهم من الجور.
وسوم: العدد 1067