القياس العلماني في الحكم على الوحي كتابا وسنة فاسد لا يعتد به
ستكون انطلاقة هذا المقال من نتيجة مغلوطة لقياس فاسد استعمله المدعو أحمد عصيد الذي توزع عليه الألقاب ، والصفات بسخاء مع أنه مجرد أستاذ لمادة الفلسفة في سلك التعليم الثانوي ،فهو لدى الجهات التي تنفخ فيه ، وتقدمه للرأي العام عبر وسائل التواصل الاجتماعي كاتب ، وشاعر ، و باحث أكاديمي ، ولا ندري لأية أكاديمية ينتمي ؟ وحقوقي لا يتجاوز مجال اشتغاله بالحقوق التي يتصلب في الدفاع عنها تكريس التعصب لنزعته العرقية ،وعلمانيته المزمنة . ففي مقال له تحت عنوان : " حكايتان من التاريخ للتأمل " ، نشره له موقع دأب على تسويق أفكاره وآرائه التي تدور في الغالب حول الانتصار لعرقيته وعلمانيته على حساب العروبة والإسلام بشكل متشنج .
وننقل نتيجته المغلوطة بسبب قياس فاسد كما جاءت في مقاله ، وهي كالآتي :
" تعكس القصتان الصراع بين العقل والهمجية، التي تنجم عن تحويل الدين من إطاره الشخصي إلى مشروع للسيطرة، ولعلهما درسان يحتاج إليهما من مازال حتى اليوم في بلدان منطقتنا، يعتقد أن الدين مشروع سياسي للهيمنة والإخضاع والتخدير، فمهما سيطرت الخرافة على عقول الناس لهذا السبب أو ذاك، فإن العقل في النهاية هو الذي ينتصر بمجرد زوال المخدر ".
والمقصود بالقصتين :
ـ الأولى : تعود إلى القرن الرابع الميلادي الذي عاشت فيه الفيلسوفة وعالمة الرياضيات والفلك والميكانيك السكندرية " هيباتيا " المتخصصة في الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، وهي فلسفة تركز على الجوانب الروحية والكونية في الفكر الأفلاطوني مع المزج بين ديانة وثنية مصرية، والديانة اليهودية . وقد قتلت سحلا ، ثم أحرقت على يد حشد مسيحي غوغائي بعد اتهامها بالوثنية والسحر .
ـ والثانية : تعود إلى عصر النهضة الأوروبية ، وتتعلق بحاكم مقاطعة أو مدينة فلورنسا " الديكتاتور " رولينزو دي بيرو دي ميديشي" ، الملقب بالأمير الرائع ، الذي كانت فترة حكمه قاسية، تميزت بالتسلط وبالتجسس البوليس على المواطنين ، وبالاعتقال التعسفي ، وبالتعذيب الوحشي ، ودون محاكمة، خلاف لما زعمه عصيد كاذبا في مقاله ، مدعيا أنها كانت فترة غاية في التسامح والمحبة ، وهو بذلك يقفز متعمدا إخفاء حقيقة تاريخية كي يركزعلى ما كان من تشجيع ذلك الحاكم المستبد للفن والفلسفة والآداب ، و في المقابل متحدثا عن رجل دين أو راهب مسيحي دومينيكاني يدعى " جيرولامو سافونا رولا "، اعتبره نقيض الحاكم الرائع ، ووصف شكل وجهه بالبشاعة ،وقد كان مناهضا له ، وللنهضة الأوروبية ، ومحرضا عليها ، وقد قاد هو الآخر فلورنسا بعد موت "رولنزو" الرائع إلا أنه أعدم حرقا .
واعتبر عصيد كما جاء في خلاصة مقاله أن هاتين القصتين جديرتان بالتأمل ، وهما درسان يحتاج إليهما اليوم الذين ما زالوا في منطقتنا ، يعتقدون أن الدين مشروع سياسي للهيمنة والإخضاع والتخدير ، وسيطرة الخرافة ، ومحاربة العقل الذي ينتصر بمجرد زوال تأثير التخذير.
ولقد ركب عصيد القصتين من أجل أن يسوّق لما يسمى بالتيار العلماني الحداثي في خضم النقاش الجاري اليوم حول مدونة الأحوال الشخصية المراد تجديدها ،حيث يطالب هذا التيار بتعطيل تعاليم الدين الإسلامي المتعلقة بالأحوال الشخصية ، ويلتمس البديل العلماني عنها بما فيه من تهتك واستهتار ترفضها قيم وأخلاق الدين الحنيف، التي هي قيم وأخلاق سواد المغاربة بشهادة الواقع المعيش المسفه والمكذب للمزايدات الإعلامية البخسة .
وباعتماد عصيد القصتين للحكم على الوحي كتابا وسنة ، وقع في قياس فاسد ، لأنه لا مقارنة بين ما هو إلهي منزه لا يأتيه باطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، وبين ما هو وضعي معرض للباطل والزيغ، ولا يمكن أن يسلم منهما لما في الطبيعة البشرية من ضعف ونقص .
ولا يمكن بحال من الأحوال مقارنة أو قياس العلماء المسلمين في الماضي والحاضر بالراهب المسيحي "جيرولامو " أو غيره من الرهبان ،لأن هؤلاء خلطوا ما هو وحي بما هو وضعي من ابتداعهم، كما يشهد بذلك القرآن الكريم الذي هو الرسالة الخاتمة إلى عالمين مصداقا لقوله تعالى : (( من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه )) ، وقوله أيضا : (( إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله )) ، وما ذلكم الصد عن سبيل الله سوى ما حرّفوه مما أنزل إليهم . ولهذا لا مجال للمقارنة بين أحبار اليهود ورهبان النصارى ، وبين علماء المسلمين الذين ورثوا العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تلقاه من رب العزة جل جلاله، مصدقا لقوله عليه الصلاة والسلام : " إن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورّثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر " .
ومن مغالطات العلمانيين عندنا تعاملهم مع الرسالة الخاتمة، كتعاملهم مع الرسالات السابقة بالرغم مما لحقها من تحريف ، تنزهت عنه الرسالة الخاتمة ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى يعتبرون مضمونها ماضويا قد انتهى الأخذ به ، الشيء الذي ينفي عنها صفة العالمية التي هي ممتدة إلى قيام الساعة ، وهم بين متطرف قائل بتعطيل تشريعاتها جملة وتفصيلا، وبين مدلس يدعي أن له الحق في التصرف فيها تحت ذريعة مسايرة ما يستجد في كل عصر ، وهذا الزعم مردود بحقيقة عالمية الرسالة الخاتمة المنزهة عن الباطل . وتمويها من هؤلاء العلمانيين المدلسين على فكرة التصرف في تشريعاتها ، يتذرعون أيضا بالحق وبالندية في مسايرة اجتهادات الفقهاء والعلماء المسلمين ماضيا وحاضرا ، وينزلون أنفسهم اليوم منزلتهم، علما بأن اجتهاد الفقهاء والعلماء المسلمين كان أصله ، ومنطلقه هو الجزم بعالمية الرسالة الخاتمة التي لا تتغير تشريعاتها في عصر أو مصر حتى تقوم الساعة ، بينما منطلق العلمانيين هو نفي عالميتها ، وكذا نفي ثبات تشريعاتها ، بل ادعاء قابليتها للتحول، وشتان بين المنطلقين .
ونرى أن حوار العلماء المسلمين مع هؤلاء العلمانيين، يجب أن يبدأ أولا من تحديد المنطلقات، بحيث يطرح سؤال جوهري عليهم أيؤمنون بأن الوحي قرآنا وسنة ،وأنهم من عند الله عز وجل ، وأنه رسالة للعالمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم ؟ فإن كان جوابهم بالنفي ، ينتهي هنا الحوار معهم ، ولا يمكن أن ينطلق أصلا ، ولا داعي لهدر الوقت بلا طائل معهم . وإذا ما أقروا بعالمية الرسالة ثم قالوا بماضوية تشريعاتها وقابليتها للتعطيل ، فينتهي هنا أيضا الحوار معهم ، ويكون التعامل معهم كما تعاملت الرسالة الخاتمة مع من جحدوا بها ، ومع من نافقوا في التعامل معها. ولا يجب أن يخجل العلماء وهم يردون على جحودهم أو على نفاقهم بتسميتهم ونعتهم بما نعتهم به القرآن الكريم من صفات ، كما أنه لا يمكن اعتماد مصطلحاتهم ومفاهيمهم الفاسدة عوضا عن المصطلحات والمفاهيم القرآنية من قبيل تسميتهم على سبيل المثال لا الحصر فاحشة قوم لوط بالمثلية ، وتسميتهم فاحشة الزنا بالرضائية ، وهي محاولة منهم لتلطيف وقعها في النفوس داخل مجتمع مسلم من جهة ، ومن جهة أخرى محاولة التطبيع معها من خلال هذا التلطيف أيضا ... إلى غير ذلك مما ابتدعوا من مصطلحات ومفاهيم دخيلة ومستوردة من العلمانية الغربية التي هي نتاج صراع عقدي وفكري وسياسي بين تيار الضلال والاستبداد الكنسي ، و تيار التمرد العلماني عليه .
والمشكل عندنا أن عناصر من التبار العلماني التي وصلت إلى مراكز صنع القرار عن طريق ما يسمى باللعبة الديمقراطية على ما يعتريها من شكوك تتعلق بنزاهتها ومصداقيتها، كما هو شائع لدى الرأي العام الوطني ، تحاول استغلال تلك المراكز من أجل فرض طروحات علمانية وشرعنتها ، بخصوص قضايا وأمور محسومة شرعا كما هو الحال بالنسبة للأحوال الشخصية ، ونذكر هنا ما صرح به وزير العدل الذي يسارع الزمن من أجل إصدار قوانين تبيح بعض ما حرمه الشرع الإسلامي ، وذلك قبل انتهاء مدة استوزاره ، ومن أجل ذلك حث من سماهم تيار الحداثيين في البرلمان على تبنيها بأسرع وقت ممكن ، كي تصير مفروضة ،وهي غير مشروعة باعتبار دين الدولة الرسمي .
وفي الأخير نشير إلى أن عصيد الذي تعامى عن فساد عقيدة الفيلسوفة السكندرية التي كانت وثنية مشوبة وثنيتها باليهودية المحرفة ، واهتم بما اخترعته في مجال الفلك، والرياضيات ،والميكانيك ، كما تعامى عن استبداد وطغيان الأمير الرائع ، واكتفى بذكر تشجيعه للفن، والفلسفة، الأدب ، إنما يقدم لنا صورته الشخصبة ،وعقيدته العلمانية التي تغض الطرف عن الفساد، والاستبداد، والتهتك، والاستهتار بالقيم الإسلامية، من أجل ما يسميه حياة مدنية ،حداثي مادية صرفة ،لا دين فيها، ولا روح لها، ولا قيم ،ولا أخلاق ، وهي تعتبر الفساد، والتهتك ،والاستهتار سموا وتحضرا ، وتحريرا للعقول، و في المقابل ترى الاستقامة على شرع الله عز وجل تخلفا ، وتزمتا ، وتخريفا ، وتخديرا للعقول . وهي تحاول أن تدعي تفوقا أو تعطي انطباعا بذلك في الظرف الحالي ، وهو في الحقيقة محض توهم من صنع ونفخ الإعلام المستأجر الذي ينفخ في القشة ويصيّرها دوحة من سراب .
وعلى العلماء عوض تضييع الوقت في الجدل البيزنطي مع التيار العلماني التوجه مباشرة إلى من يهمه الأمر ، والقيام بواجب النصح له كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عمن تسدى لهم النصيحة فأجاب :" لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ".
وسوم: العدد 1075