هل سيكون الحراك الطّلابي المعارض لحرب غزة في الولايات المتحدة بداية ثورة فكرية وثقافية واجتماعية
هل سيكون الحراك الطّلابي المعارض لحرب غزة في الولايات المتحدة بداية ثورة فكرية وثقافية واجتماعية كالحراك الطلابي في فرنسا سنة 1968 ؟؟؟
لقد عرف الشارع الأمريكي منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر الماضي حراكا معارضا لما أقدم عليه الكيان الصهيوني من جرائم حرب إبادة في حق المواطنين المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة خصوصا الأطفال، والنساء ، والشيوخ ، والمرضى ، ومعارضا أيضا لمشاركة الإدارة الأمريكية الفعلية في هذه الحرب بجندها ، وعتادها .
ولقد كان هذا الحراك تعبيرا عن وعي مبعثه ضمير الرأي العالم الأمريكي الحي والرافض للظلم والعدوان الواقعين على الشعب الفلسطيني الذي سلب منه وطنه ، وسُلّم للكيان الصهيوني المبثوث كورم سرطاني خبيث في جسم الوطن العربي لفرض الهيمنة عليه ، ولابتزاز خيراته ومقدراته من طرف قوى غربية رأسمالية على رأسها الولايات المتحدة التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية ، وكان لها نصيب الأسد في الامتيازات المترتبة عن هذه الحرب .
ولقد بدأ حراك الشارع الأمريكي محتشما ثم ما لبث أن تحول إلى مسيرات مليونية عندما استعرت حرب غزة ، واستحرّ التقتيل في أطفال ونساء وشيوخ ومرضى قطاع غزة ، وكان ذلك مصدر قلق الإدارة الأمريكية التي حاولت أن تمتص غضب الشارع عن طريق بعض تصريحات قادتها الذين كانوا يتظاهرون باعتراضهم على جرائم الإبادة الجماعية مع استمرار إمدادهم الكيان الصهيوني بالعتاد المدمر، بل وبمشاركتهم الفعلية في الحرب ، الشيء الذي جعل المسيرات المليونية تندد بالموقف الأمريكي، وتحمله مسؤولية الإبادة الجماعية ، وتطالبه بممارسة الضغط على الكيان الصهيوني لوقفها فورا.
واليوم انتقل حراك التنديد بالكيان الصهيوني وبتعاون الإدارة الأمريكية معه في جرائمه الوحشية من الشارع إلى باحات أعرق الجامعات الأمريكية التي تمثل الريادة الفكرية والثقافية حيث اعتصم طلابها ، ومعهم أساتذتهم تنديدا بالإدارة الأمريكية التي تمادت في دعم الكيان الصهيوني بقدر تماديه في إبادة الشعب الفلسطيني ، وأغدقت عليه بمليارات الدولارات المستخلصة من جيوب الشعب الأمريكي من أجل تسليحه بأحدث أسلحة الفتك والدمار ، وهذا ما جعل الفئة المثقفة طلابا وأساتذة ، وهم طليعة المجتمع الأمريكي يشعرون بوخز الضمائر ، ويرون أن الإدارة الأمريكية بموقفها المؤيد للإبادة قد ورطت الشعب الأمريكي فيها بشكل مباشر . وأمام اتساع نطاق الحراك الطلابي عبر معظم ولايات البلاد، لجأت الإدارة الأمريكية إلى العنف من أجل فض الاعتصامات في الحرم الجامعي تحت ذريعة منع رفع شعارات معاداة للسامية وكراهيتها ، وهي أخطر تهمة في الولايات المتحدة ، و في عموم الدول الأوروبية . وبتدخل ما يسمى بقوات مكافحة الشغب، سقط قناع الإدارة الأمريكية التي تتبجح بضمان حرية الرأي وحرية التعبير، ولم يعد للطلبة الجامعيين في حرمهم الجامعي حق التعبير عن آرائهم بالطرق السلمية . ولقد لجأت الإدارة الأمريكية إلى إصدار أوامر لمنع التظاهر في الجامعات ، وعمدت قوات الشرطة إلى استعمال العنف ضد المتظاهرين والمعتصمين لاعتبارها تظاهرهم واعتصامهم مثيرا للشغب ، ومخالفا للقانون وماسا بالأمن القومي . والحقيقة التي لم تستطع الإدارة الأمريكية إخفاءها أن السبب في منعها هو ما سمته معاداة السامية وكراهيتها في الوقت الذي تعادي وتكره هذه السامية كل من ينتقد إجرامها وبطشها في قطاع غزة ، وكأنها آلهة لا تسأل ، ولا تحاسب عما تفعل ، في حين يسأل ويحاسب غيرها مهما كان . ومعلوم أنه في انتقاد هذه السامية وإدانة أعمالها الإجرامية انتقاد مباشر للإدارة الأمريكية التي تخشى أن يؤثر ذلك في نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة ، وهي انتخابات يتحكم فيها دور اللوبي الصهيوني أيا ما كان الحزب الفائز بحيث لا يمكن أن يفوز حزب على آخر إلا بقدر ما يلبي مطالب هذا اللوبي الذي يخدم الكيان الصهيوني ، وهو مصدر تمويله المادي والمعنوي . ولأن الحزب الحاكم الحالي لا يريد أن يخسر الانتخابات ، فإنه تورط مباشرة في حرب الإبادة ، الشيء الذي فجر الحراك لدى الفئة الطلابية المثقفة والواعية ، ولدى الفئة الفكرية التي تساندها وتشاركها وعيها .
ولا ندري هل من قبيل الصدفة أن يحدث الحراك الطلابي في الولايات المتحدة ، ونحن على موعد مع شهر مايو أيار، كما كان حال الحراك الطلابي الفرنسي في نفس الشهر من سنة 1968 ، وهو الحراك الذي حرك معه الحراك العمالي . وربما قد يحرك الحراك الطلابي لأمريكي الحالي أيضا حراكا عماليا ،الشيء الذي سيضطر الإدارة الأمريكية إلى نهج أسلوب الجنرال الفرنسي " ديجول " الذي لجأ إلى العنف ثم سارع إلى الزيادة في أجور الطبقة العاملة لصرفها عن الحراك الطلابي بغرض الالتفاف عليه، إلا أنه لم يستطع أن يقف دون حصول ثورة اجتماعية وفكرية وثقافية ، كانت عبارة عن منعرج في تاريخ فرنسا الحديث ، وقد غير من قيم كانت سائدة فيها ، وكانت له تداعيات في كل دول القارة العجوز ، وحتى خارجها .
ولا شك أن الحراك الطلابي الأمريكي الذي تريد الإدارة الأمريكية الإجهاز عليه ، سيحدث لا محالة ثورة فكرية وثقافية واجتماعية ، والتي ستغير من قيم تقديس السامية ، وتأييدها المطلق بلا حدود ، وتصحيح المغالطات التي تقف وراء ذلك التقديس بعدما سقط قناع الصهيونية العنصرية والنازية من خلال جرائم حرب الإبادة الفظيعة التي تمارسها ، وهي تدوس على كل القوانين والقيم والأعراف الإنسانية بتزكية من الإدارة الأمريكية، و من الإدارات الأوروبية التابعة لها ، وهي تستفيد من حق النقض الفيتو الذي يوفر لها غطاء على ما تقترفه من جرائم ضد الإنسانية ،وتستفيد مما تدره عليها فكرة إدانة معاداة السامية وكراهيتها من حماية ودعم لا حدود لهما إلى درجة عجز مجلس الأمن ، ومحكمة العدل الدولية عن محاسبتها على جرائم إبادة جماعية مكتملة الأركان ، وموثقة توثيقا حيا تتناقله وسائل الإعلام ، ووسائل التواصل الاجتماعي يوميا عبر كل بلاد المعمور .
ولا شك أن انهيار استمرار ارتزاق الكيان الصهيوني بفكرة إدانة معادة السامية وكراهيتها بسبب ما أقامه على نفسه من حجج دامغة ابقترافه جرائم مروعة في غزة ، سيراجع أو سيغير نظرة شعوب العالم إليه بفعل الثورة الطلابية في الولايات المتحدة ، والتي من غير المستبعد أن تمتد إلى كل جامعات دول العالم ، وقد بدأت بوادرها في بعض دول أمريكا اللاتينية حيث تحاول بعض الأنظمة فيها والسائرة في فلك الإدارة الأمريكية أن تحذو حذوها في مواجهة الحراك المعادي للصهيونية بالعنف .
ولا بد من الإشارة إلى أن الإدارة الأمريكية ومن يحذو حذوها لن تكتفي بقمع الحراك الطلابي ، وغيره من الحراكات الأخرى، بل ستحاول مواجهتها بحراكات مضادة من خلال تحريك فئات اجتماعية قد تكون طلابية أو غير طلابية من أجل إعطاء انطباع بوجود تأييد للكيان الصهيوني ، ولسياسة الإدارة الأمريكية المؤيدة والداعمة له في حربه القذرة في غزة ، وفي باقي مناطق فلسطين المحتلة . وقد زعم مجرم الكيان الصهيوني أن نسبة دعم إسرائيل في الولايات المتحدة أكبر من نسبة إدانتها.
وأخيرا لا بد من استحضار الوضع الحرج الذي تورط فيه مجلس الحرب الصهيوني، وقد فشل في القضاء على حركة المقاومة الفلسطينية ،وفشل في تحرير رهائنه ، وفشل في رفض تسوية ملفهم ، ودفع ثمنا باهظا مقابل تعنته من خلال خسارة فادحة في أرواح جنوده ، وفي عتاده ، وفي اقتصاده الذي يعرف انهيارا شاملا تحاول الدول الداعمة له أن تتداركه بمساعدات سخية .
ولا مخرج للإدارة الأمريكية من الورطة التي تعيشها اليوم سوى الاستجابة للحراك الداخلي الطلابي وغير الطلابي ، وذلك بالبحث الجاد عن حل للقضية الفلسطينية عوض التستر وراء الفيتو لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة، وذات سيادة ،ومتمتعة بكامل حقوقها ضمن دول المنتظم الدولي ، وإلا فإن الآتي سيكون أسوأ مما هو عليه الآن ،لأن شعوب العالم قد وعت ما يحاك ضد الشعب الفلسطيني ، وسترفضه وستقاومه بكل شدة ، وهو ما سيضطر كل الأنظمة إلى الخضوع لإرادة شعوبها عوض معاكستها ، أو التسويف على ذلك ، أواعتماد أساليب القمع ، ومنع حرية التعبير، وحرية الرأي .وإن غدا لناظره قريب .
وسوم: العدد 1077