الهويّة المُزيفة تنقذ الفلسطينيين

لم يهتم أحد بمستشفيات الشفاء والناصر، ولم تقم القيامة إلّا بعد عمليات الإبادة الجماعية التي حدثت فيهما، عندما انتفضت الجامعات الأمريكيّة وسلطت الضوء على مَن جاء متأخرا من بلدان السبات؛ لوقف هذه المجازر المُرعبة في زمن التحضر والتطور الخياليّ، الذي بقيَّ تطورا وتحضرا شكليا بالاسم فقط، دون أن نتلمسه في الواقع المُندفع نحو التوحش والحروب.

رأينا الدم يسيلُ في الشوارع وجثث بعض الأطباء الذين ما زالوا يرتدون لباسهم الطبيّ في مقابر جماعيّة، ومحكمة دولية لا تعترف بأفعال الصهاينة الموجهة إلى تدمير الناس والاستيلاء على أراضيهم تماما، تغيّرت نظرتنا كُلّيا نحو العالم.. ورُبّما تغيّر العالم إلى الأبد.

يقول باسم خندقجي في روايته «قناع بلون السماء»: ليس ثمّة معنى لاسم المخيم الفلسطيني إلّا عندما تُرتكب فيه المجزرة؛ ليصبح اسما من أسماء المآسي في تاريخ الإنسانية، حيث لا يوجد صوت صادح فعلا ينقذ الأبرياء المُحاصرين إلّا بعد أن يكونوا أموات أي لا حياة للمرء في ظل الاحتلال البربريّ والدعم الغربيّ الهمجيّ.. تغدو الأمكنة الفلسطينية مواقع أثرية تاريخية تشير إلى عمق القبح الإنساني. الموت هو الموت، الموت لا قناع له.

يذكر الخندقجي في روايته نفسها، وكأنّما يصف ذاته الحديديّة بأن الفلسطينيّ يواجه المعتقل بإرادته الفولاذيّة، ويهزم غربته المريرة بالأمل المتدفّق من حبر قلمه؛ ليبارز الحرمان والانتزاع الحادّ والمُمنهج للإنسانيّة من زمانها ومكانها. إذ ينهمك العالم الكولونيالي المُطعّم بالحداثة في قضايا مُعاصرة أقل أهمية من القضية الفلسطينيّة، إنها تشغل الناس بالتفاهات والسطحيات بشكلٍ تامّ، مُتناسين حجم الدمار والشتات الذي حصل في هُوية العرب بسبب النظام الصهيوني المُزيف، المهووس بالسيطرة، والأكاذيب والاغتصاب. هنا يكمن السؤال المحوري: هل يمكن لمُفردات اللُّغة في هذا العمل الأدبيّ الرفيع أن تكون أساسا للثورة والإصرار؟ لن يفرطَ الفرد العربيّ في فلسطين بتاريخهِ النضالي ومُعاناته في الاعتقالات والسجون؛ ولذلك فهو لن يكون كائنا هاربا ولن يساوم على أرضه ببساطة؛ هكذا أشار الأسير باسم الخندقجي في كتاباتهِ عدّة مرّات. إن سلسلة الخذلان ومساراتها العاصفة لا تليق بالمُقاومين البواسل، الذين واجهوا النكران الكاسح والجاحد خلال سنوات الانتفاضة الطويلة، عندما يموت المرء أكثر من مرّة ويقرر الولادة من الحطام، فإنه سيصبح من الصعب حتما إقناعه بالضعف والاستسلام، هذا هو معنى العودة من رحلة التغييب القسريّ.

يحذر الكاتب في روايته من أن يكون الاحتلال جزءا من حياتنا اليوميّة، ينبغي للإنسان الواعي الحُرّ أن لا يجعل وجود العدو السامّ أمرا طبيعيا، إن الاحتلال الذي قتل الأطفال وهجّر النساء، ثمَّ هاجم المزارعين وبيوت المواطنين الأبرياء لا يمكن أن يبدو شيئا عاديّا وبسيطا مع مرور الوقت.

استعملَ المسكوت عنه كمادّةٍ سرديّة جريئة من جهة واستحضرَ الثنائيات المُتناقضة مثل: الخير والشرّ، الملاك والشيطان.. من جهةٍ أُخرى. يشكّ في أن الخطيئة هي في الواقع خطيئة، قد تكون كذلك في نظر المُجتمع، طباعه وأعرافه كما هي فلسطين التي صارت ضحية مؤثرة في عين العرب ومُخطئة هشة في عين الغرب الأصمّ.

لم يثقل المتن الروائي بالشكوى الفلسطينيّة، بل بأحداث رمزيّة ومعلومات مُهمّة كاشفة تدل على مخزونهِ الثقافيّ، يروي في صفحات كتابه قصّة البطل «نور» حينما عثر على هُويّة إسرائيليّة داخل رداء مهترئ اشتراه؛ ليتقمص هذه الشخصية اليهوديّة التي يرى في أن ملامحها البيضاء تشبه ملامحه وأصوله الأشكنازيّة، يمضي في الحديث عن تزويره الاستغلاليّ قائلا: «مراد يا صديقي.. سأبوح لكَ بسرّي الذي لا أقوى على كتابتهِ في بريدنا المهرّب، بلى.. سأعلمك بكُلّ تناقضاتي وتُرّهاتي. للاسم مناعة يا مراد وللقناع حصانة، وأنا عثرتُ على قناع واسم لأتسلّل من خلالهما إلى أعماق العالم الكولونياليّ، أليس هذا ما يقوله صديقك فرانز فانون حول الجلود السوداء والأقنعة البيضاء؟».

غالبا ما ينجو الفلسطينيون من خلال ملامحهم واسمائهم الغريبة المُنتحلة، بحيث يتنكرون بزيّ مُعيّن ويستعينون بلُغة عبريّة مُتقنة وهُويات ضائعة للتنقل وإنجاز بعض المهام المطلوبة بعيدا عن ملاحقة أعدائهم وتجنب العديد من المخاطر في المناطق المحظورة. خاصّة إذا كان أحدهم شابا فلسطينيا لاجئا يتسلّل للعمل في القدس بلا تصريح. إنها الملامح إذن، الملامح قناع، صرخ، رقص وغطس في بحر يافا على حدِّ تعبيره المشحون بالقوة والعزيمة. ثمّة فرق كبير بين كونكَ يهوديا وكونكَ صهيونيّا، فالمشكلة ليست في اليهودي، بل في الصهيوني، هذه المسميات المُلتبسة التي لا يفصل بينها الكثيرون، هي أصل الصراعات والاضطرابات في مُعظم البلدان العربيّة المُلتاعة والخاسرة اليوم.

يصحو باسم خندقجي صباحا يجد الوطن كما هو/ ليس هو/ وشرفته لم تزل شرفة دون مطر، بقيَّ أسيرا لدى الإسرائيليين لكن روايته تجاوزت حدود البلاد. فازت هذه الرواية مُؤخّرا بجائزة البوكر العربية وأثبتت أن الأدب هو الذي يحبس الزنزانة وليست الزنزانة هي من تحبس الأدب كما يقول طارق إمام.

يؤكد مثل هذا الفوز الفريد أهمية الأدب ومدى تأثيره الشديد، يمكن أن نعده واحدا من أقوى وسائل التعبير وأكثرها فاعلية الآن. علينا أن نلتفتَ مثل التفاتة أستاذ الفلسفة «عمر مهيبل» إلى تثمين فعل الكتابة بوصفهِ الوسيلة الأنجع لضمان ترسيم الأثر الخاصّ بكينونة الإنسان الزئبقيّة. لا أحد يستطيع أن يسجن إنسانا كاتبا أبدا ولا أحد يمكنه أن يقف أمام فنّ ينتجه مكافح أصيل في ظروف حالكة ومُؤلمة وفي وقتٍ يجب أن نفقد ثقتنا بهِ ونخاف من أسرارهِ المُباغتة. اختار باسم خندقجي أن يكون كاتبا ملائكيا في الزمن الذي يرتكب فيه البشر أشدّ أنواع القسوة الأنانية والانغماس في الذات المَرضية، لقد كتب روايته المُتبصّرة في زمن يقوم فيه الناس بإيذاء الآخرين بسهولة وتلك بلا شكّ من طبيعة الإنسان الفطريّة. لم تقع أفكاره أسيرة التقليديّة المُنفرة، ولم تنسَ شخصيته أدق تفاصيل الحياة الهامشيّة المُتعلقة بالقضيّة الأساسية وهي الوطن المُستقل، فقد عاش كاتبا وشاعرا أكثر حُرّية من سجّانيه، فالحبيس الحقيقي هو حبيس الفكر وليس بالطبع حبيس الجسد الفاني. لعلّ سجنه كان سجنا صغيرا عند مقارنته بسجن الحياة الكبير والشائك؛ لذا كتب لصديقه الأسير مراد ما يلي: «كم أحسدك يا مراد على سجنك الأصغر، لأن واقعك الحديدي هذا واضح الملامح مكون من معادلة بسيطة، لكنها قاسية: سجن، سجين، سجان.. لكن هنا في السجن الأكبر الأمور لم تعد واضحة».

جازف الخندقجي بحياته في كُلّ ليلة بما أنه يقيم في صومعةٍ اعتبرها واضحة ومليئة بالظلام المُخيف. لا أؤمن مثله بالكثير لكني أؤمن بالأدب الجيّد والحُرّية التي ليس لها مقابل، على الرغم من أن الأدب الكاذب له نصيب من حياتي كالخيبة تقريبا، ومع ذلك أتأمّل أن تصل الجوائز إلى مكانها المُناسب كما وصلت إلى السجون الإسرائيليّة – ذات الشعارات المقيتة – في هذهِ المرّة المُفاجئة والعادلة. لن تحرّرَ الروايات والأشعار الكاتب من سجون الحمقى الأوغاد بسرعةٍ فائقة، إلّا أنها ستدفع الأحرار إلى الثبات وإيصال أصوات ممّن وقعوا في كمين النسيان والإهمال إلى أبعد الحدود المُتخيلة؛ لأنها تصوّر مُعاناة أسير عبقريّ وعذاب محارب ما زال يملك شعلة من الأحلام.

إن الكتابة الجديّة والعميقة شكل من أشكال البقاء والمقاومة التي يخشاها العدو اللئيم، تصبح مرادفة للرصاص والخناجر تحت سماء فلسطين الجارحة، لا شكّ في أن الانتماء الأصيل يعود للُغة لحالها، أيّ أن اللغة العربيّة والناطقين بها والمُبدعين الفاعلين فيها يستطيعون أن يستعيدوا الأرض والهُويّة الحقيقيّة معا..

ينبغي لنا ألّا ننسى أن السكان الأصليين لا يتركون أراضيهم، الغزاة فقط هم مَن سيفعلون ذلك. طوبى للذي عرف الموت والحياة معا. طوبى للذي مرَّ على حين رمشةٍ من أمام العالم القاسي.

وسوم: العدد 1080