كلماتٌ في وداع إسماعيل هنية "أبو العبد"

"2"

في طهران تشييع مهيبٌ وثأرٌ قريبٌ

لم تنم طهران ليليتها، ولم يعد أحدٌ من قادتها إلى بيته، بل استنفرت الدولة كلها، وهب على أقدامهم رجالها، وانتقل إلى مكان الحادث كبار مسؤوليها، وتنادى إليه حرسها الثوري وقادة فيالقها، وسبقها إليه قائد فيلق القدس وكبار مساعديه.

وعلم لساعتها قائد ثورتها ومرشد بلادها الأعلى، الذي هاله ما حدث، وأحزنه كثيراً ما وقع، فأيقظ بلاده واستنفر جنده، ولبس لَأْمَتَه، وتقدم شعبه وأطلق موقفه، وبدا حكيماً صارماً حازماً واثقاً غير وجلٍ، وعبر بكلماتٍ فاصلةٍ عن موقفه ولم يخف، فكانت حرَّى حزينةً، غاضبةً أليمةً، فيها غصة ولوعةٌ، وأسى وأسفٌ، وفيها بأسٌ وشدةٌ، وفيها عزمٌ وثورةٌ، ووعدٌ ووعيدٌ، وثأرٌ وانتقامٌ قريبٌ.

انتفضت إيران كما لم تنتفض من قبل، وانتابها غضبٌ كاللهب امتد كالمدى ودوى كالرعد، صدمت وذهلت فقد قتلُ ضيفها، واغتيل حليفها، واعتدى العدو على شرفها، وانتهك حرمتها، ومس سيادتها، واخترق وهو الأخرق الأحمق كل النظم والأعراف، وخالف كل التوقعات والتنبؤات، وفكر وقدر ونفذ فقتل كيف قدر ونفذ، فاعتدى على الضيف الزائر، وهو الذي يعلم عظم ذنب قتل الضيف الوافد، والغدر بالمبعوث والرسول.

الحدث جلل والمصيبة مهولة، والمستهدف كبير، والخرق خطير، والحادث غير متوقعٍ، وهو آخر ما كان يتخيله أحدٌ منهم، فطهران آمنةٌ مطمئنةٌ، آمنٌ أهلها ومطمئنٌ ضيفها، وهي حرزٌ وأمانٌ، ومأمنٌ وسلامٌ، عصيةٌ على العدو بعيدة عنه، لا يطالها ولا يصل إليها، ويخشى الاعتداء عليها والمساس بها، ويحسب خطواته نحوها ويتردد في الغارة عليها، ويدرك أبعاد عدوانه عليها وحتمية الرد عليه وكف يديه.

لكن العدو الإسرائيلي الذي أعيته المقاومة الفلسطينية في غزة، وعجز عن مواجهتها، بات يتخبط بحثاً عن صورة نصرٍ، ويتعثر سعياً وراء إنجازٍ، وجرياً وراء أملٍ كالسراب، وانتظاراً لرجاءٍ كالوهم، وهدفٍ يبعد عنه كلما تقدمت به الأيام، فظن أنه بقتله قائدٍ ينتصر، وباغتياله غيلةً لمسؤولٍ سياسيٍ يتحرك في العلن، ويزور البلاد رسمياً ويتجول في شوارعها آمناً مطمئناً، يستطيع أن يحبط المقاومة، ويضعف رجالها، ويدفع قادتها نحو اليأس  والاستسلام، ويأخذ منها ما عجز عن نيله بالقوة وبالمذابح والمجازر اليومية التي يرتكبها.

ربما لا يقل غضب الجمهورية الإسلامية في إيران باستشهاد الأستاذ إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، عن غضب الشعب الفلسطيني الذي إليه ينتمي، ولا عن حركة حماس وقادتها وكوادرها التي يترأسها، وكتائبها المقاومة التي يقود ركبها، ويتقدم صفها، ويثق بها ويراهن عليها، وهي في غضبتها صادقة، وفي غيرتها على فلسطين وأهلها، ودعمها لشعبها ومقاومتها جداً صادقة، وقد علم الشهيد صدق نواياها، وثبات مواقفها، وإخلاص رجالها، فحالفها كما حالفته، وبادلها الحب الذي أعطته، والوفاء الذي حملته.

لعل غضب إيران بلغ مداه، واستنفذ الصبر الاستراتيجي الذي أخطأ العدو قراءته وأساء فهمه، ولن يبرد غضبها حتى تثأر وتنتقم، فهذه الجريمة التي نفذها العدو في بيتهم هي جريمة شرفٍ وكرامةٍ، ولا يغسل الشرف ويعيد الكرامة سوى الدم، وقد أقسم قائد ثورتها ومرشدها الأعلى على الثأر والانتقام، وتلقين العدو درساً وتدفيعه ثمناً قاسياً، يذوق بنفسه وبال فعلته، ويرتدع حليفه عن عونه ومساعدته، وهو ثأرٌ نراه قادماً لا محالة، ويعلمه العدو حقيقةً لا خيالاً، وقد بات يترقبه، ويخشاه ويتحسبه، فاستنفر قواه وجهز طيرانه، واستدعى جنده، ومنع الإجازات، وألغى العطل والاستثناءات، وأغلق المناطق وعطل الحياة، وأبعد المستوطنين وفتح عميقاً الملاجئ والمقرات المحصنة، انتظاراً لوعدٍ قادمٍ، وردٍ حتميٍ لن يتأخر.

لم يكن الإيرانيون في حاجةٍ إلى نداءٍ يخرجهم، ولا إلى جهةٍ توجههم، أو جماعةٍ تحرضهم، فقد خرجوا غضبى من تلقاء أنفسهم، وانتظموا في مسيراتٍ حاشدةٍ في طهران ومختلف المدن الإيرانية، حزناً على الشهيد، ووداعاً له، ووعداً بالثأر والتهديد، فكانوا عشرات الألوف في الشوارع يزحفون، وبالشعارات الغاضبة يصدحون، وصور الشهيد يرفعون، وأبناءه يقدمون، في مشهدٍ لم يألفه الإيرانيون مع غير إيراني، ولم يسبق أن قاموا بمثله مع مقاومٍ منهم، فقد غدت شوار طهران بحراً من الغاضبين ثائراً، وطوفاناً من البشر يغلي ناراً، فالشهيد ابنهم وهو حليفهم، ومن قبل هو ضيفهم وزائر بلادهم، وشاهدٌ على تنصيب رئيسهم، وبداية عهدٍ جديدٍ لبلادهم.

نعى قائد الجمهورية الإسلامية ومرشدها الأعلى الشهيد بنفسه، وتوعد العدو بصوته، وأَمَّ المصلين في مصلى جامعة طهران بنفسه، وتقدمهم وخطب فيهم، ودعا للشهيد وشعبه، واستقدم أولاده وقبلهم، وهمس في آذانهم ووعدهم، واستبقى رفاقه وأوصاهم، وتذكر المرافق الشهيد ولم يغفل عن ذكره، وأشاد به ومدحه، ووصفه بالبطل الشهيد والمقاوم الأصيل، ودعا الله واستغفر له، وعاد من مصلاه إلى مقره وهو يشحذ الهمم، ويستدعي القادة، ويستشير الخبراء، ويؤكد على الثأر والانتقام، ويقول بأسى قد أصابنا الشهيد بالثكل.

ليس غريباً أن يقتل العدو إسماعيل هنية في طهران، وأن يستهدفه في إيران، فهو يريد أن يقطع هذا الحبل المتين، وينهي هذا الحلف الوثيق، ويتخلص من هذا الخطر المكين، ظناً منه أنه يستطيع أن يخيف الاثنين معاً، ويرعب الحلفاء الآخرين وأطراف محور المقاومة الباقين، ولكن الله عز وجل الذي مكن للمقاومة في إيران، وأمدها بجندٍ وعتادٍ، وسلاحٍ ورجالٍ، سيرد كيدهم إلى نحرهم، وسيخرج إلى العالم أضغانهم، وسيغرقون في الفتنة التي أرادوها، وسينتهون بنار الحرب التي أشعلوها، وسيعلمون أنهم ضلوا الطريق وأخطأوا الهدف، ولعلهم الآن يتساءلون عن مخرجٍ يرجون، وعن أمنٍ مستحيلٍ يبحثون.

كلماتٌ في وداع إسماعيل هنية "أبو العبد"

"3"

وصية الشهيد لإخوانه ولسان حاله من عليائه

ارتقى القائد إسماعيل هنية إلى العلى شهيداً، ورحل إلى جوار ربه راضياً مرضياً، وسَعِدَ مع الأنبياء والصديقين والصالحين، والتحق بمن سبقه من الشهداء إلى جنان الخلد من أهله وولده، وأحبابه وأحفاده، وجيرانه وأصدقائه، وإخوانه وأصحابه، وأبناء شعبه الذين حزن لحالهم، ورَقَّ لأوضاعهم، وتألم لمعاناتهم، وعمل جاهداً لنجاتهم، وبذل حياته من أجلهم، وسعى ما استطاع لإنقاذهم، واستعادة بلادهم، وتحرير وطنهم، وعودة أبنائهم الأسرى أعزةً أحراراً من سجون العدو ومعتقلاته، وما ادخر جهداً ولا وفر وقتاً في سبيل أهداف شعبه العليا، وغاياتهم السامية، التي آمن بها وضحى في سبيلها، وختم حياته وهو يدافع عنها ويسعى لتحقيقها.

رحل هنية وعينه على فلسطين لم تغب، وقلبه على غزة يضطرب، وعيونه إليها ترحل، ونفسه إلى العودة إليها تهفو، فغزة تسكنه وتعيش في قلبه بين الحنايا والضلوع، ومخيمه الشاطئ يتجذر في أعماقه وطناً، ولا يغيب عن ذاكرته يوماً، ففيه ولد ونشأ، وفي أزقته كبر ودرج، وعلى بيته فيه حافظ وما فرط، وقد عرفه سكان مخيمه وأهل منطقته وأحبوه شاباً، وعرفوا خلاله وأحبوا شمائله ابناً لهم، وقد عهدوه طويلاً ملتزماً مساجدهم، ولاعباً في ملاعبهم، ومدرساً للقرآن وحافظاً له ومعلماً لأولادهم، ثم فخروا به نائباً عنهم وممثلاً لهم، ثم رئيساً لحكومتهم وخادماً لهم وراعياً لشؤونهم، وقد أدركوا صدقه فأحبوه، ولمسوا إخلاصه وصدقوه، وعملوا معه ولازموه.

وما نسي يوماً وطنه الكبير فلسطين، ولا غابت عنه القدس والأقصى، ولا شطب من حساباته النقب وحيفا، ولا الجليل وعكا، ولا تسرب اليأس يوماً إلى قلبه، ولا عرف القنوط في دربه، ولا شكا من تعب، أو تذمر من نصب، ولا انكسرت ارادته، أو لانت عريكته، ولا أضعفته دمعةٌ أو أدمته حسرةٌ، ولا أضناه فقدُ ولدٍ أو رحيلُ حفيد، بل بقي حتى شهادته شامخاً كجبال القدس والخليل، وسهوب حيفا والجليل، فهو يؤمن أن فلسطين كلها له ولشعبه وطناً، وللأجيال من بعدهم سكناً، ويقينه بالله عز وجل أن الغد مهما تأخر فسيكون لهم، وستطلع الشمس على أرضهم وهي محررة، وهم فيها أسياداً بررةً، فهذا وعد الله الخالد لأمته.

لعله اليوم في عليائه لا يشعر بحزنٍ ولا جوى، ولا يشكو من ضيقٍ ولا نوى، ولا يعاني من ظلمٍ ولا أسى، ولا يقلق من حرمان ولا قلى، فهو في كنف الرحمن ورعايته، وفي جوار ربه وصحبة خير خلقه، لكنه حزينٌ على شعبه، ومتألمٌ لحالهم، ويخشى على مصيرهم، ويتمنى لو صلح حالهم، وتحسنت ظروفهم، وانتهت معاناتهم، واتفقت فصائلهم، واتحدت قواهم، وأخلص قادتهم، وأنهوا خلافاتهم، ووضعوا حداً صادقاً لانقسامهم، وأصبحوا في مواجهة عدوهم جبهةً واحدةً، وإرادةً موحدة، وصوتاً ممثلاً لهم معبراً عنهم، يوحدهم ولا يفرقهم، ويمثلهم ولا يجزئهم، فشعبهم الذي قدم وأعطى، وقاوم وضحى، يستحق منهم الإخلاص له، والعمل من أجله، والوفاء له والصدق معه.  

ولعله وهو الذي ترأس حركته، وكان رئيساً لمكتبها السياسي، فجمع أقطابها، ووحد صففها، وتوسط بينها، ونظم عقدها، ورصع جمعها، واعتصم وإخوانه بحبل الله المتين ونهجه القويم وتمسك بها، وكان رؤوفاً بها حريصاً عليها، رائداً لها وخادماً لأبنائها، وقد شهد له إخوانه والمحبون أنه كان وسطاً عدلاً، سهلاً ليناً، أليفاً مألوفاً، صادقاً محبوباً، يستشير ولا يجور، ويشارك ولا يتفرد، ويتنازل ولا يعاند، ويصغي ويسمع، ويلين ويخضع، هادئاً لا يغضب، وحكيماً لا يشتط، ووسطاً لا يتطرف، وعدلاً لا يظلم، يبش في وجه إخوانه، ويشاركهم أفراحهم، ويخف ليكون معهم في أحزانهم، يتصل ببعيدهم، ويطمئن على مريضهم، ويقلق على غائبهم، ولا ينسى صديقاً قديماً ولا أخاً بات غريباً.

ربما كان الشهيد يتمنى أن يستمر عدله، وأن يتواصل نهجه، ويتواصى خلفه، فتجتمع كلمة إخوانه من بعده على رجلٍ يجمع كلمتهم، ويوحد صفهم، ويواصل دربهم، ويقيم الحق بينهم، ويتمسك بالثوابت ولا يفرط، ويصر على الحق ولا يساوم، ويتواضع فيهم ويعدل بينهم، ويكون قريباً من الكل، محباً للجميع، مستفيداً من كل الطاقات، موظفاً لكل القوى، حريصاً على العمل، ومخلصاً في الحكم، عاملاً بجدٍ، مترفعاً عن كل عيبٍ، فلا يجور ولا يظلم، ولا يقصي ولا يبعد، ولا يحرم ولا يمنع، ولا يعاقب مزاجاً ولا يُقرب إلا صادقاً، ولا يصغي وشايةً ولا يسمع إلا نصيحةً، ولا يصنع حاشيةً ولا يخلق جوقةً، بل يكون بالحق صادحاً وبالعدل حاكماً.

يغيب عنا الأخ إسماعيل هنية ولكنه يتمنى على من يخلفه، أن يجعل فلسطين همه، وحاجة شعبه غايته، ومصلحة وطنه دليله، فلا يتحالف إلا مع من ثبت صدقه، وجرب جده، وأخلص عمله، ولا يبتعد عمن كان معه ووقف إلى جانبه، ولا يتخلى عمن يعرض خدماته ويقدم مساعداته، ولا يحابي على الحق، ولا يجافي على الموقف، فالحق بَيِّنٌ والباطلُ بَيِّنٌ، فلا يضل الطريق، ولا يزيغ عن الصواب، ولا يغتر بالوعود، ولا يستجيب للإغراء، وليكن مع من يحب فلسطين ويخلص لها ويعمل من أجلها، شعوباً ودولاً، ولا يضيره المستنكفون، ولا يحزنه المتنكبون، ولا يضعفه المتولون.

سلام الله عليك أبا العبد، سلام الله عليك في الخالدين، وهنيئاً لك صحبة الأنبياء الأخيار والشهداء الأبرار، وجعل خَلَفك من بعد بعدك صدقاً وعداً، حكماً وسطاً، رحمةً عدلاً، لا يضيع الأمانة، ولا يضل الطريق، ولا يحيد عن الدرب، ولا يفرط في الحق، ولا يخلف الوعد، ولا ينكث العهد، ولا يفض الجمع، ولا يفتت الصف، ويلقى الله عز وجل حافظاً للأمانة وصائناً للحق، ثابتاً على الدرب، وفقه الله وأيده، وسدد خطاه وحفظه، وأعانه وسهل مهمته، وهيأ له بطانة الخير وشورة الحق، وأنجز على يديه وعده، وحقق هدفه، وأفرح شعبه، وأذل عدوه.

كلماتٌ في وداع إسماعيل هنية "أبو العبد"

"4"

الثأرُ لهنية من وجهة نظرٍ فلسطينيةٍ

يعتقد الفلسطينيون في أغلبهم الأعم، أن الجمهورية الإسلامية في إيران، ستثأر من العدو الإسرائيلي لإقدامه على اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في بلادها، وهو على أرضها وفي ضيافتها وفي حماية حرسها، وفي يومٍ مشهودٍ من تاريخها، وبعد ساعاتٍ قليلةٍ من استقبال مرشدها الأعلى وقائد ثورتها الإسلامية له، واجتماع رئيس الجمهورية المنتخب به، واحتفائه به وتأكيده موقف بلاده الأصيل معه، وتجواله آمناً في شوارعها، وزيارته لأحد أشهر معالمها، ولقائه بعامة الإيرانيين في أسواقها، وتجواله في برج ميلاد الأعلى والأكثر تميزاً فيها، والتقاطه الصور معهم، وسعادته بمشاركتهم والحديث معهم، والإحساس بينهم بعمق الروابط وقدم الوشائج وصدق المشاعر، والطمأنينة إلى الأمن والسلامة والأمان بينهم ومعهم وفي بلادهم وفي ضيافة حرسهم ورعاية مرشدهم وحماية فيلقهم.

لن ينام الإيرانيون عن حقهم في الثأر والانتقام، ولن يهملوا الرد، ولن يتأخروا عنه، ولن يفرطوا فيه، فالثأر والانتقام، والرد الموجع القاسي، كرامةٌ ومهابةٌ، وعزةٌ وشرفٌ، والتفريط في أيٍ منها يغري العدو على المزيد منها وأكثر، ويشجعه على العدوان والإثخان في الصفوف وانتهاك المحرمات أكثر، لذا يجب الرد عليه والانتقام منه، ورد الصاع له صاعين وأكثر، عله يتعلم ويرتدع، ويكف عن عدوانه ويرعوي، فهو لا يفهم غير لغة القوة، ولا يكف حتى يخاف، ولا يقلع عن مغامراته حتى يعلم عاقبة أمره، ولكنه ظن أنه بمنأى عن العقوبة فساء الأدب، واعتقد أن أحداً لن يستطيع المساس به أو الاقتراب منه فتمادى وظلم، وبالغ في عدوانه وبغى.

ونحن الفلسطينيين نعلم الإيرانيين ونثق فيهم، ونصدقهم في وعدهم وننتظر وفاءهم، ولا نشك في جديتهم ولا ينتابنا القلق في مصداقيتهم، وقد تهيأوا لمهمتهم واستعدوا لها، وأعلموا العالم بها، فهذا حقهم وهو شأنٌ يتعلق بكرامتهم، ولا يبدو أنهم يخشون نتائجها أو رد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ودول أوروبا ضدها، فردهم مشروعٌ قانوناً، وتجيزه سنن الحياة وتجارب الشعوب، فما من معتدٍ إلا واستحق العقاب، وما من مظلومٍ إلا جاز له الثأر والانتقام، وما وجد القصاص إلا لتمام العدل، ولا فرض العقاب إلا لضمان الالتزام.

ونرى أن العدو الإسرائيلي قد تهيأ وتحفز، وبدأ يتوجس ويترقب، ويتساءل وحلفاؤه من أين ستأتي الضربة وكيف سيكون الانتقام، وهل سيكون فردياً من طرفهم، أم سيكون متعدد الجبهات مع غيرهم، وهل سيكون رداً واحداً يكتفون به، أم أنه سيكون متصلاً وعملاً مستداماً يستنزفهم ويكبدهم خسائر أكبر، ويدخلهم في مأزقٍ جديدٍ ما عاشوا مثله من قبل، ولا تصوروا يوماً أن يواجهوا خطراً يشبهه، يتهددهم من عدة جبهاتٍ قريبةٍ وبعيدةٍ، لا تتردد في قصفه ولا تخشى مواجهته، ولا تخيفها تهديداته، أو يمنعها وهم تفوقه وكذبة قوته.

سيفرح الفلسطينيون ومن يحبهم بهذه الضربة إن وجهت، وسيشفى غيظ قلوبهم مقتل بعض الإسرائيليين، ودمار بيوتهم، وتعطل حياتهم، وجمود اقتصادهم، وتهديد مطارهم، وفرار مستوطنيهم، وتصدع جبهتهم، واستنزاف خزينتهم، وسيكونون أكثر فرحاً إن طال خوفهم، وتواصل القصف عليهم، ليذوقوا وبال أمرهم، ويشربوا من نفس الكأس الذي جرعونا منه، وأذاقونا المر به، ونحن إن كنا أحمل منهم وأصبر، وأصدق منهم وعلى الأرض وأثبت، فإنهم لن يستطيعوا صبراً، ولن يتحملوا عنتاً، وسيصرخون حتماً، وسيهربون بسرعةٍ، ولن يكونوا قادرين على الصمود والمواجهة، فهذه الحرب تختلف عن سابقاتها، وهؤلاء الأجناد الجدد يختلفون عمن سبقهم، فهم فعلاً يتجددون ويتجذرون، ويثبتون ويقاتلون، ويتقدمون ولا يخافون.

لكن الفلسطينيين سيكونون أكثر فرحاً وسعادة، وسيشكرون إيران وحزب الله ومحور المقاومة، إن هم استطاعوا تحت تهديد القوة، وشرعية الثأر والانتقام، وجدية الرد وسرعته، أن يدفعوا الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها، الذين يدعون كذباً أنهم لا يريدون توسعة الحرب، ويخشون من زيادة منسوب العنف والتوتر في المنطقة، إلى دفع الكيان الصهيوني بالقوة، والضغط عليه ليقبل بوقف الحرب والعدوان على الفلسطينيين عموماً وعلى قطاع غزة خصوصاً، والقبول بالصفقة الأولى التي قدمتها المقاومة الفلسطينية، دون أي تعديلاتٍ عليها، وذلك مقابل تجميد الرد المشروع.

لعل إخضاع العدو وإلزام الولايات المتحدة الأمريكية بصفقة المقاومة الأولى، التي تنص على وقف العدوان، وانسحاب الاحتلال من كل القطاع بلا استثناء، فلا بقاء له ولا وجود على الحدود، ولا على المعابر والبوابات، والإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين الذين اعتقلوا بعد عملية طوفان الأقصى، والمصادقة على صفقة تبادل الأسرى وفق قوائم المقاومة، ودون الاعتراض على أيٍ من المعتقلين، أو محاولة الامتناع عن إدراجهم ضمن الصفقة تحت أي سببٍ أو حجةٍ، وعلى أن تلتزم الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا برفع الحصار عن قطاع غزة، والمباشرة في عملية إعادة الإعمار، وضمان التزام العدو بالاتفاق وعدم العودة إلى العدوان على القطاع من جديدٍ.

ربما سيكون الفلسطينيون أكثر فرحاً ورضا بهذه النتيجة، وأكثر حاجةٍ لها، فوقف الحرب وانسحاب الاحتلال هو أولوية قصوى، وهي أولى بكثيرٍ من ضربةٍ تؤذي العدو يوماً وتدفعه بعد ذلك إلى مواصلة الحرب واستئناف القتال في غزة، ولعلها أيضاً ترضي الشهيد إسماعيل هنية الذي كان يعمل جاهداً لوقف العدوان، ورفع المعاناة عن شعبه وأهله في قطاع غزة، وهي ربما ترضي الشهيد فؤاد شكر، الذي فتح جبهة الجنوب مسانداً لغزة، وساعياً لرفع الضيم عنها ووقف العدوان عليها.

إلا يقبل العدو بهذه الصفقة ويخضع لها صاغراً، أو يكون الرد مباغتاً صاعقاً، والثأر مؤلماً موجعاً، والانتقام شاملاً، والقصف واسعاً، يفقد العدو صوابه، ويحرق قلبه ويدمي شعبه، ويجعله يندم على فعلته، ويبحث جاداً للخروج من مأزقه.

كلماتٌ في وداع إسماعيل هنية "أبو العبد"

"5"

مشاهدٌ من خيمة العزاء وصورٌ من بيت الشهيد

على مدى ثلاثة أيامٍ متواليةٍ قد انتهت، هي أيام العزاء المضنية للروح والجسد، التي نظمت في العاصمة القطرية الدوحة، للرجال في سرادق كبيرٍ قد نصب من أجله، وجهز لهذه المناسبة الحزينة الأليمة، وخصصت له مساحة كبيرة من الأرض، ضمن إجراءاتٍ أمنية خاصة، وأسباب حمايةٍ مشددة، ورعايةٍ قطريةٍ كريمةٍ، حيث أَمَّه آلاف المعزين من المواطنين القطريين والمقيمين، وآخرون قد جاؤوا من كل حدبٍ وصوبٍ، من الجوار القريب ومن كل أنحاء عالمنا العربي والإسلامي القصي والبعيد، قدموا العزاء بأنفسهم، ونيابةٍ عن أهلهم وشعوبهم، بعضهم مثل بلاده رسمياً، وهم سفراءٌ نحبهم ونجلهم، ونقدر عالياً مشاركتهم، وغيرهم وهم كثير مثلوا شعوبهم الصادقة، وقدموا العزاء باسم أهلهم الذين يحبون فلسطين وأهلها، ويعشقون أرضها وقدسها، ويتألمون لما أصابها ونزل بها، ويتمنون نصرتها والدفاع عنها، والقتال مع أهلها والشهادة على أرضها.

وفي مكانٍ غير بعيدٍ، في بيت الشهيد الذي سيبقى مفتوحاً، ولن تغلق أبوابه باستشهاد سيده ورحيل صاحبه، الذي بناه ورفع بالمقاومة عماده، وأعلى بالصدق والتواضع أسواره، وحمى بالرفق واللين أهله وأحبابه، وربى فيه على المقاومة وحب الشهادة أولاده وأحفاده، كان بيت عزاءٍ آخر مهيبٌ وكبيرٌ، خصص للنساء، اللاتي أقبلن فرادى وزرافاتٍ، فلسطينيات وعربياتٌ، وأخرياتٌ من كل الجنسيات، يخفين حزنهن، ولا يقوين على حبس الدموع في عيونهن، التي ملأت المآقي وفجعت قلوبهن، فأظهرن من الحزن والألم ما أخفاه أزواجهن، وما تعالى عليه أبناؤهن.

إلا أن رفيقة دربه، زوجته وأم أولاده، أم العبد التي واكبته وعانت معه، وصبرت معه وما جزعت، وقدمت معه أبناءها وأحفادها وما وهنت، واحتسبت أجرهم عند الله عز وجلٍ، وبصمتٍ عليهم حزنت، وبعيداً عن العيون شوقاً إليهم بكت، استقبلت المعزيات برأسٍ عالٍ مرفوعٍ، ونفسٍ واثقةٍ غير مكلومةٍ، وكانت معهن كالطود الشامخ في مواجهة استشهاده، امرأة صابرةً محتسبة، حبست دمعها، ونهضت وكأنها ما كبت، وانتصبت أمام أبنائها والمعزيات تفخر بشهادة زوجها، التي أقبل عليها وكان يتهيأ لها من قبل معها، وقد قال لها مراراً تهيأي لملاقاة الله عز وجل، وصحبة رسوله الكريم، محمد صلى الله عليه وسلم، فأنا لا أراني إلا شهيداً ها هنا، في هذا البيت وفي هذه البلاد.

وفي ركنٍ قصيٍ في سرادق العزاء، وغير بعيدٍ في بيت الشهيد، كنت أرقب ثلةً من الشبان المتقدين حماسةً وقوةً، المشرقة وجوههم، البهية هيئاتهم، المتلحفين بالصمت والمتوارين بأسفٍ، يبحث عنهم الجميع ويسألون، ويذهبون إليهم حيث يقفون ويصطفون، يصافحونهم ولهم يقدمون العزاء، ويقفون معهم بصمتٍ وخشوعٍ، وتقديرٍ واحترامٍ، عرفت أنهم مرافقو الشهيد ومساعدوه، وفريق عمله ومستشاروه، والعاملون في مكتبه والمتابعون لمهامه، وإخوة الشهيد وسيم أبو شعبان، الذي قضى مع الشهيد اصطفاءً، واختاره الله عز وجل من بينهم انتقاءً.

رأيت الحزن يسكن عيونهم، والأسى يطغى على وجوههم، وقد كساهم الألم والوجوم، والحسرة والهموم، فقد رحل والدهم، وغاب سيدهم، وفقدوا أخاهم، وسبقهم إلى جنان الخلد من رباهم، وشعروا بالخيمة التي ظللتهم سنين طويلة قد سقط عمادها، وانهارت فجأةً ساريتها، وهم الذين تعاهدوا على حمايته والتضحية بأرواحهم دونه، وقد رأوا صدقه وإخلاصه، وتفانيه وتجرده، ورحمته ورأفته، ولينه ورقته.

قد عرفوه صغاراً، ورافقوه منذ أن اشتد عودهم، وقرروا العمل معه وإلى جانبه، فأصبحوا مرافقين له طول عمرهم، ومضى عليهم أكثر من خمس عشر سنة وهم في صحبته، في غزة والدوحة، وفي كل مكانٍ يذهب إليه زائراً أو يقيم فيه عملاً، وقد اعتادوا العيش معه وبرفقته، يحرسونه بأرواحهم ويحمونه بمهجهم، ولا يغيبون عنه برهةً من زمانهم ولا ساعةً من أيامهم.

يخفون إليه قبل أن يدعوهم، ويلتفون حوله كأنه أبوهم، يحنو عليهم ويسأل عنهم، يتفقدهم ويزورهم، يهتم بشؤونهم ويعنى بحاجاتهم، يجلس معهم ويسامرهم، يصلي معهم ويؤمهم، ويسبقهم إلى موائدهم ويقدم الطعام لهم، يتفقد غائبهم، ويهتم لمريضهم، ويسأل عن حاجة كلٍ منهم، كأنهم أولاده، أو بعض أهله، وهم في جلهم من أهل بيته العزيز وسكان مخيمه الأصيل، مخيم الشاطئ الذي جمعه بهم وعرفه عليهم، واستبقاهم إلى جانبه منه، يذكرونه به، ويأنس لوجودهم معه، وكأنه ما زال معهم في مخيمه لم يفارقه، وبين أهله لم يغادرهم.

أما همامٌ وعبد السلام، فقد كانا على قدر المحنة والابتلاء، تصدرا المعزين، ووقفا ثابتين في استقبال المهنئين، وكانا قد صَبَّرا أهلهما والمحبين، واحتسبا عند الله عز وجل والدهما كأعظم شهيد، ووقفا في مواجهة التحديات والتصدي للاستحقاقات القادمة كأعظم ما يكون أبناء الشهداء، الذين لا يروعهم الخطب، ولا يخرجهم عن طورهم الجزع، ولا يقعدهم الفقد أو يضعف نفوسهم الرحيل، وقد أحسن عبد السلام خاتمة العزاء، فكانت كلمته شاملة، ومعانيها كاملة، ورسائلها كثيرة، وأبعادها استراتيجية، ورؤيتها بصيرة، وثقتها بالله عز وجل كبيرة.

قد كانا فخورين بأبيهما، سعداء بما تراه عيونهما، وهم يرون آلاف المعزين، وآلاف المتصلين، ويسمعون عن مئات ملايين المسلمين وقد صلوا في بلادهم صلاة الغائب على أبيهم، في سابقةٍ لم يشهد مثلها المسلمون من قبل، وكأن شهادته كانت نصراً، واغتياله كان فتحاً.

وفي الأقصى كان اسم أبيهم علماً، يرج الأرض ويرتفع إلى الجوزاء علواً، يغيظ العدو ويقهر الاحتلال، ولا يأبه بعقابهم ولا يخاف إجراءاتهم شيخ الأقصى وإمامه، الذي دعا له وصلى عليه، واستبشر بشهادته وتوعد قاتله بيومٍ فيه على جرائمه يندم، وتحل عليه اللعنة قريباً ويرحل.

رحمة الله عليك أبا العبد، نستودعك الله عز وجل وقد سلمت الأمانة كاملةً، ورحلت وما فرطت فيها ولا هنت، وحافظت عليها وما استسلمت، وحمل الراية من بعدك خلفك، القوي الأمين، الصادق الوعد المتين، وأخذ الكتاب بقوةٍ، ومضى على عهدك بثقةٍ ويقينٍ، فسلام الله عليك في الخالدين، وعلى رفيقك وسيم، وغفر لك ووفق من بعدك، وكان معهم وأيدهم، وأخذ بأيديهم ونصرهم وبه أعزهم.

انتهى ......

وسوم: العدد 1090