باقون في الوطن… لن نسقط جواز السفر!

لا أعرف حتى متى سننجح، نحن الآباء، بتأجيل التعاطي مع سؤال الأبناء حول ميعاد حلول ساعة الصفر، ومتى يصبح «الهروب» من البلد قبل وقوع الكارثة هو ملاذ النجاة الوحيد، أو نفيه بالمطلق، حتى لو كان البقاء فيه يعني وأد الأماني وموطن التضحيات، التي ستظللها قباب الذكرى وتحفظها سجلّات المستقبل على شواهد من رماد وطين. لم تبدأ هواجس الرحيل تتقافز في عقول بعض شرائح المواطنين العرب في إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، لكنها اشتدت بسبب تداعيات ذلك النهار وقرار حكومة إسرائيل اعتماده ذريعة للبدء بحملة «فتوحاتها» الشرق أوسطية وتغيير خريطة المنطقة السياسية.

يؤثر البعض بيننا عدم التعاطي مع هذه المسألة؛ فالحديث عن ترك الوطن يعتبر في «موروثنا النكبوي» من المحظورات والكبائر التي تربينا على اجتنابها. إنه درس آبائنا من النكبة الأولى، نقلوه وعلّمونا أن البقاء في الوطن هو الخيار الصحيح والأسلم؛ فاللاجئ يبقى في الغربة، وإن علت به المراتب، صدأ المدائن الباردة.

على هذه القاعدة نشأنا وعليها ربينا أولادنا. ولكن أين كنا وكيف صرنا؟ إن الذي حدث ويحدث لنا كعرب، وبيننا كفلسطينيين، وحولنا كمواطنين في إسرائيل، يجب أن يدفعنا لنكون يقظين وحكماء؛ فزمن انتصارات القصائد، ولّى وحل مكانه زمن الهزائم والمؤامرات والخيانة، زمن تحصد فيه نيران إسرائيل «الثوار» ولا تبقي «لا على شيخ ولا على عكاز ولا حجر». سيبقى الصمود فريضة، بيد أن بعضا من التروي «ومجالسة» الأبناء ومتابعة ما يجري على الجبهات لا يضير.

لم يعد تعريف هدف العمليات العسكرية، التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة موضع خلاف، أو مسألة فيها وجهات نظر وقابلة للتأويل، كما كانت حكومة إسرائيل تتمنى؛ فالأدلة على أن إسرائيل تقوم بإبادة جماعية في غزة وجرائم حرب أخرى، تزايدت بشكل ملموس، وعمليات توثيق تلك الجرائم أدت إلى اتساع حلقات إدانة سياسات إسرائيل في كثير من المحافل العالمية وحتى داخل إسرائيل.

إننا أمام مشهد تجري فيه إبادة شعب والعالم يغطس بالدعاء وبالثغاء، وينتظر الغنائم؛ مشهد تجري فيه «إبادة القانون» وحدوده، ونحن، دون شك سنكون ضحاياه القادمين

من اللافت أننا نرى بعض الخبراء القانونيين العالميين الذين تعرضوا لجرائم إسرائيل في غزة، يجرون في دراساتهم مقاربات بين ما قام ويقوم به الجيش الإسرائيلي وجرائم النازيين في أوروبا، وما جرى في معتقل «أبو غريب» وفي حروب أخرى. يجمع هؤلاء الخبراء على أن ما تقوم به إسرائيل هو عملية إبادة جماعية، تنفذ بوسائل تجسّد الشر في حالته المطلقة، كما تعبر عنه سلوكيات الجنود الإسرائيلين الذين يصوّرون أنفسهم في حالات من النشوة المرضية، ويعبرون عن متعتهم المنحرفة بالقتل وبالتمثيل بجثث ضحاياهم، والعبث في ممتلكاتهم.

لقد نشرت في الأشهر الأخيرة عدة تقارير وثقت جزءا من تلك الممارسات الشاذة والمنحرفة، من أهمها وأخطرها، كانت التقارير التي أعدّها المحاضر في كلية التاريخ في الجامعة العبرية لي مردخاي ونشرت منها مقاطع في جريدة «هآرتس» العبرية في الخامس من ديسمبر الفائت.

لقد كثرت الكتابات في هذا المضمار، لكنني سألفت في هذه العجالة لمقالة كتبها مؤخرا البروفيسور بوب هاوز، وهو استاذ بارز في القانون الدولي- جامعة نيويورك كان قد نشرها في منصة Novara Media. يقول إنه «منذ اكتوبر الماضي تزايدت الأدلة على أن إسرائيل تنفذ إبادة جماعية في غزة. للإبادة الجماعية معنى دقيق في القانون الدولي وهو: التدمير المتعمد لشعب ما «كلّيا أو جزئيا». إن إرث الهولوكوست يجعلنا نفكر في الإبادة الجماعية كمصطلح نهائي لوصف فظائع من هذا النوع، ومع ذلك، هناك حدود لاستخدام هذا المصطلح القانوني وحده لشرح ما يجري في غزة والتعبير عن لا أخلاقيته. بالنسبة لي، لا يمكن لأي مفهوم قانوني أو جريمة جنائية أن تستوعب فظاعة ما يجري في غزة. إنَها أكثر من إبادة جماعية، إنها القتل بحماس وببهجة من دون رادع». في غزة كما يرى العالم، يقترف الجيش الإسرائيلي ما هو أكثر من الإبادة الجماعية، إنهم «يقترفون أيضا الإبادة القانونية، أي تدمير مفهوم الحدود القانونية برمتها في زمن الحرب أيضا». إنها حرب لم تترك للفلسطيني في غزة إلا معنى واحدا للصمود وهو ألا يموت.

لا يواجه الفلسطينيون في الضفة الغربية المحتلة فظاعة ما يواجهه إخوانهم في غزة؛ بيد أن معظمهم يشعرون بأن معركتهم مع الاحتلال على وشك أن تدخل مرحلة جديدة يريدها المحتل، أن تكون حاسمة ومحررة من أوثاق القانون، ومن نوازع الأخلاق وروادع الضمير. معركة أعلنتها الحكومة الإسرائيلية على الملأ، وتسعى من ورائها لضم الأرض الفلسطينية «وتحييد» الفلسطينيين، إما بالرصاص، أو بالتهجير، أو بالتدجين والسيطرة، وتفترض أنها تستطيع أن تفعل في الضفة كما فعلت في غزة ولن يمنعها أحد. ما يفعله اليوم جنود الاحتلال وسوائب المستوطنين في الضفة المحتلة، يعكس حجم المخطط وأهدافه، ويشي بأن قواعد الإبادة هي نفسها؛ وأن الشر بالمطلق هنا وهناك ووحشيته ليست بعشوائية نيرانه وسهولتها «وبالقتل البهيج» وحسب، إنما بكونه قتلا يعتمد على «إبادة القانون» أيضا وهدم جميع حدوده، حيث يبقى الشر مطلقا والقتل لذة والقمع تسلية. إنها حرب سيواجه الفلسطيني في الضفة فيها خياراته بالصمود أو الصمود أو.. وأعوذ من هذه الأو!

لا يقتصر نشاط حكومة نتنياهو ضد الوجود الفلسطيني على جبهتي غزة والضفة الغربية؛ فملاحقة المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل تأخذ أبعادا جديدة، لاسيما بعد سن مجموعة من القوانين تستهدف حقوقهم وحرياتهم وتحاصرهم بشكل غير مسبوق. لم تتوقف حكومة نتنياهو عن تنفيذ مخططها في الانقلاب القضائي منذ انتخابها، بل نجحت، باستغلالها لظلال الحرب، من تحقيق معظم مراحله، وأصبحت بسبب ذلك النجاح في مواجهة، ليس مع المواطنين العرب وحسب، بل مع كل معارضيها اليهود.

لقد قرأنا أن عشرات آلاف المواطنين اليهود هاجروا من إسرائيل خلال العام المنصرم. وقرأنا أن كثيرين بدأوا يعدّون جوازات سفرهم تأهبا للهجرة والهروب مما تعدّ لهم حكومتهم بعد أن قامت «بإبادة القانون» وحيّدت سلطته الطبيعية في الدولة.

لقد كتبت ليمور ليفنات في موقع «واي نت» العبري قبل يومين مقالا عنونته «حكومة ضد القانون، هذه ليست حوكمة إنها الفوضى»، وعبرت فيه عن تخوفها من انفلات حكومة نتنياهو ضد المؤسسات القانونية وتمرد الوزراء على قرارات المحكمة العليا وسائر الأجسام القضائية. انتخبت ليمور ليفنات في مطلع القرن نائبة في الكنيست عن حزب الليكود، وشغلت منصب وزيرة في حكوماته لسنوات طويلة. أنهت مقالها، بعد أن وصفت كيف دمرت/أبادت حكومة نتنياهو مكانة القانون وقوّضت سلطته بقولها «إنه الغرب المتوحش (في إشارة إلى أيام الاستعمار الأمريكي وحربه ضد السكان الأصليين) لقد تحدثوا عن توطيد حكم الدولة/ سيادتها؟ لكن الفوضى هي الحاكمة. إن نتنياهو ينتقم لأهانته الشخصية، هذه حربه الشخصية»؛ ثم نبهت: «إذا لم نستعجل ونعجل فنحن القادمون».

بتزامن مع مقال ليفنات كتب الصحافي البارز في جريدة «هآرتس» يهوشوع برينر مقالا حذّر فيه من الهجوم الكاسح الذي يتعرض له القاضي يتسحاك عميت المرشح لرئاسة المحكمة العليا ولا ترضى عنه حكومة نتنياهو. يشير المقال لمجموعة من الاتهامات والألفاظ التي وجهت للقاضي عميت من قبل أعضاء الليكود باسم «الشعب» وحكمه ويقول: «عندما أسمع هذا المصطلح «الشعب» في هذه السياقات أبدأ بالتفتيش عن جواز سفري. هذا ما تعلمته من الشوآه/ الكارثة»؛ ثم يضيف قائلا «لن يستطيع الليبراليون أن يبنوا هنا مستقبلا وسيضطرون للهجرة». هكذا يفكر من يشعر بأن حرب الإبادة قد تصل عند عتبات داره. سيقول قائل، يجوز لليهودي أن يبدأ بالتفتيش عن جواز سفره، وأن يهاجر ويهرب من جنون «شعبه» وجنون قادته، أما نحن، المواطنين العرب، فهذا لا يجوز لنا. ويقول قائل، يحيا الصمود ولكن كيف السبيل إليه؟ إننا أمام مشهد تجري فيه إبادة شعب والعالم يغطس بالدعاء وبالثغاء، وينتظر الغنائم؛ مشهد تجري فيه «إبادة القانون» وحدوده، ونحن، دون شك سنكون ضحاياه القادمين. مشهد يستدعينا كي نكون يقظين ولنا في «الدهر موعظة»؛ فقد تكون «كل قلوب الناس جنسيتنا» لكننا قد نحتاج يوما إلى جواز سفر!

وسوم: العدد 1110