إرث «الحركة التصحيحية»: أيّ جيش يُحلّ اليوم في سوريا؟
إلى جانب تولية أحمد الشرع رئاسة سوريا خلال المرحلة الانتقالية وتمثيل البلد في المحافل الدولية، أصدرت إدارة العمليات العسكرية سلسلة قرارات، هامة عموماً وبعضها لا يخلو من إشكالية، كانت غالبية الشعب السوري تتطلع إليها على مدى الـ54 سنة من نظام «الحركة التصحيحية» عموماً، و14 سنة أعقبت انطلاق الانتفاضة الشعبية في ربيع 2011 خصوصاً. بينها حلّ حزب البعث وجميع الأجهزة الأمنية، وأحزاب الجبهة الوطنية، و«جميع الفصائل العسكرية والأجسام السياسية الثورية والمدنية» مع دمجها في مؤسسات الدولة؛ كما تضمنت حلّ الجيش الذي زجّه نظام آل الأسد في حروب متعاقبة ضدّ الشعب السوري، فسقطت عنه الصفة الوطنية، خاصة خلال سنوات قمع الانتفاضة.
وهذه السطور حلقة أولى في نقاش القرارات الأخيرة، تتناول حال جيش النظام اعتماداً على تاريخه في ظلّ «الحركة التصحيحية» منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 1970 وحتى انحلاله يوم 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، مع انهيار نظام بشار الأسد، وريث أبيه حافظ الأسد. ومن الإنصاف التنويه بأنّ النواة الفعلية لهذا الجيش بدأت قبل ذلك، في سنة 1963، مع «اللجنة العسكرية» الشهيرة التي ضمّت صلاح جديد، محمد عمران، عبد الكريم الجندي، أحمد المير، وحافظ الأسد؛ قبيل تصفية أمين الحافظ في انقلاب 23 شباط (فبراير) 1966، وصولاً إلى انقلاب الأسد الأب على رفاقه في حزب البعث.
وبعد أسابيع قليلة أعقبت انقلابه العسكري، سارع الأسد الأب إلى إعادة ترتيب الفرق الـ13 التي كان الجيش السوري يتألف منها (قرابة 325 ألفا، بين عامل وخدمة إلزامية واحتياط) فوزّع 9 منها على 3 فيالق تتبع لرئاسة الأركان، وأبقى 4 منها خارج هذا الترتيب:
ـ سرايا الدفاع: وأسند قيادتها إلى شقيقه رفعت الأسد، وتألفت من ثمانية ألوية مشاة ومظليين، وأسلحة ثقيلة تشمل الدبابات والحوامات والمدفعية الثقيلة، وامتيازات خاصة في الراتب والسكن والترفيع. وكانت تشكل ثلث كامل القوة البرّية في جيش النظام، ولعبت دوراً بارزاً في الدفاع عن النظام أثناء سنوات الصراع مع الإخوان المسلمين، 1979 ـ 1983، كما اشتُهرت بارتكاب العديد من الفظائع بينها مجزرة سجن تدمر الصحراوي في حزيران (يونيو) 1980 (تتراوح أعداد القتلى بين 800 إلى 1000 سجين). بعد محاولة الاستيلاء على السلطة، التي قام بها رفعت سنة 1984، حلّ الأسد الأب السرايا ووزّع عناصرها على الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والوحدات الخاصة.
ـ الوحدات الخاصة: بدأت كفرقة مظليين محترفة، ولعبت دوراً في الهجوم على جبل الشيخ خلال حرب 1973، لكنها كانت أيضاً أحد أبرز الوحدات العسكرية المكلفة بالدفاع عن أمن النظام، خاصة في حصار مدينة حماة واقتحامها وتدميرها سنة 1982؛ كذلك لعبت دوراً محورياً ضمن قوات النظام المنتشرة في لبنان، وسُجّل ارتكاب ضباطها انتهاكات صارخة وإدارة شبكات نهب وتهريب. ظل اللواء علي حيدر قائدها طوال 26 سنة، وحرص على تشكيل أفرادها الـ25 ألف عنصر من أغلبية علوية، مطعمة ببعض الأقليات البدوية من ريف محافظة دير الزور. وعندما صدرت عن حيدر إشارات امتعاض على عمليات توريث بشار، سارع الأسد الأب إلى إعفائه من قيادة الوحدات، في سنة 1988.
كان بعض إرث «الحركة التصحيحية» الذي آن أوان طيّ صفحته، ليس مع جحافل الفصائل الزاحفة نحو حلب وحماة وحمص والعاصمة فقط، بل أوّلاً مع طلائع شهداء درعا
ـ الفرقة الرابعة: وتألفت من 3 ألوية مدرعة ولواء ميكانيكي، لكن مستوى تسليحها لم يكن يُقارن بأي فرقة أخرى بالنظر إلى أنها صُمّمت لكي تكون وريثة سرايا الدفاع والدرع الأوّل في الدفاع عن النظام، ولهذا فإن أكثر من 80٪ من عناصرها (قرابة 70 ألف مقاتل) انتموا إلى الطائفة العلوية، والنسبة الباقية تتوزع على الدروز والقليل فقط من السنّة. ورغم أن قائدها الرسمي كان اللواء علي محمد درغام، إلا أن الآمر الفعلي ظلّ العميد ماهر الأسد شقيق بشار، الذي تولى رسمياً قيادة الفوج المدرع 42 داخل الفرقة. خلال السنوات الأخيرة تحولت حواجز الفرقة، المنتشرة في مختلف الأراضي السورية، إلى منابع نهب وأتاوات وتهريب ومصادرة، كما كانت الجهة الأبرز في إنتاج وتصدير الكبتاغون، بالتعاون مع مفارز تابعة لـ«حزب الله» اللبناني.
ــ الحرس الجمهوري: أسسه الأسد الأب في سنة 1976 لحماية المقرّات والمواكب الرئاسية، وأسند قيادته إلى عدنان مخلوف، ابن عمّ زوجة الرئيس، ولا تنتمي الغالبية الساحقة من عناصره إلى الطائفة العلوية فقط، بل يتم انتقاؤهم عشائرياً من داخل الفخذ الكلبي الذي تنحدر منه عائلة الأسد، مع استبعاد منهجي لأبناء العشائر الحدادية الذين ينحدر منهم صلاح جديد مثلاً. وبعد حلّ سرايا الدفاع أحيلت منها أعداد كبيرة إلى الحرس الجمهوري، وفي مطلع الانتفاضة الشعبية سنة 2011 باتت الفرقة تتألف من ثلاثة ألوية ميكانيكية وفوجين متخصصين في الأمن.
وخلال عمليات تحضير بشار للتوريث، حرص الأسد الأب على إجراء مناقلات واسعة بين ضباط هذه الوحدات الأربع، تضمنت إحالة بعضهم على التقاعد، ليس لكي يجلب بدلاً عنهم ضباطاً أكثر إخلاصاً لبشار وطاعة له وانخراطاً في سيرورة التوريث فقط، بل كذلك لاستبعاد الضباط الذين ما يزالون على ولائهم القديم لقادة تمّ إقصاؤهم (رفعت الأسد، علي حيدر، علي الصالح، شفيق فياض…). هنا، أيضاً، لم تلعب العوامل الطائفية والعشائرية دوراً بارزاً في تحديد صعود الضابط أو عزله فحسب، بل كان للعائلة دورها الكبير أيضاً: على سبيل المثال، خلال الأشهر الأولى من الانتفاضة، تمّ إحصاء 43 ضابطاً من عائلة خضور، و18 من عائلة مخلوف، و14 من عائلة بركات؛ في مواقع قيادية عليا أو حساسة داخل الفيالق والفرق والأفواج.
ولقد اتضح، سريعاً في الواقع، أن هذه هي بالفعل الوحدات العسكرية النظامية التي يُنتظر تكون الأخلص في الدفاع عن النظام، والأشرس في قمع المعارضة، والأشنع في تنفيذ المجازر وانتهاكات حقوق الإنسان، تماماً كما هندس الأسد الأب وظائفها ومهامها. لكنها، في ضوء انشقاقات الضباط السنّة وتفكك الأفواج والكتائب النظامية، لم تكن كافية لإنقاذ النظام، وتوجب بالتالي تشكيل ميليشيات مسلحة ذات بُعد طائفي ومناطقي صريح على شاكلة «الدفاع الوطني» أو تشكيل «قوات النمر» بقيادة سهيل الحسن، وكذلك استقدام مقاتلي «حزب الله» اللبناني، وعشرات ميليشيات الشيعة من العراق، وضباط «الحرس الثوري» الإيراني، وصولاً إلى استقدام الجيش الروسي وتمركزه في مطار حميميم، وفي قلب مناطق الطائفة العلوية.
ومنذ أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أي بعد 54 سنة على تنشئة جيش «الحركة التصحيحية» اتضح سريعاً أيضاً أنه لم يعد يمتلك من أسباب البأس والسطوة والشراسة والحوافز مقادير الحدّ الأدنى المطلوبة كي يواصل الدفاع عن القلّة القليلة المتبقية من قياداته العليا، ذات الصبغة الطائفية غالباً، والفاسدة عموماً، والمرتهنة لطهران أو موسكو، والمتاجرة بالكبتاغون؛ خاصة في الهرم الأعلى، حيث دائرة الأسد الأضيق. ومع انحسار/ انكسار شوكة مناصري النظام من «الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» اللبناني والميليشيات المذهبية العراقية، وانشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا وإدراكها أكثر فأكثر أنّ الأسد يمارس ألعاب الحواة الهواة بين إيران والسعودية وروسيا وأمريكا في آن معاً؛ توجّب أن يتفكك ما تبقى من قوام هذا «الجيش» وأن يذوب سريعاً بلا قتال ولا مواجهة.
كان بعض إرث «الحركة التصحيحية» الذي آن أوان طيّ صفحته، ليس مع جحافل الفصائل الزاحفة نحو حلب وحماة وحمص والعاصمة فقط، بل أوّلاً مع طلائع شهداء درعا يوم 18/3/2011.
وسوم: العدد 1114