اللكنة في الجزيرة الفراتية

مهند إبراهيم الكاطع

مهند إبراهيم الكاطع

تَستَخدمُ قبائل و عشائر الجزيرةِ السوريةِ وخاصةً تِلكَ الضاربةِ بالقِدَم في الجزيرةِ الفراتيةِ اللُّكْنة التي تميزها عن العشائر العربية في المناطق الأخرى كقبائل ( جزيرة العرب ، واليمن ) وحديثنا هنا عن قبائل الجزيرة الفراتية التي لا يمكن تحديد زمن هجرة جميعها إلى  المنطقة، حيث استقرت في الجزيرة الفراتية  منذ أقدم العصور  و كانت تمثل حتى الربع الأول من القرن العشرين (البدو نصف الرحل) فيها .

لُّكْنة القبائلِ الفراتيةِ هي أقربُ ما تكون إلى لكنة عشائر العراق (بحدوده الحالية) ، فقد كانت الجزيرة قبل حدود سايكس بيكو و قبل سقوط الخلافة العثمانية تشمل أجزاءً كبيرة من العراق وشرق تركيا (الحالية) كما هو موضح في الصورة ، وكانت الجزيرة تسمى أيضاً (أقليم الجزيرة) عند الجغرافيين العرب (1)، وجاءت تحت أسم الجزيرة الفراتية عند ابن خلكان  في معرض كلامه عن مدينة [دنيسر] حيث قال أنها مدينة [بالجزيرة الفراتية بين نصيبين ورأس العين]،  و تسمى أيضاً العراق الشمالي عند بعض الرحالة (2) ، ولها تسميات أقدم من ذلك ( رومانية وآشورية ويونانية وأخمينية ) وفقاً للسيطرة عليها من قبل تلك الأمبراطوريات  في عصور مختلفة، ومنطقة الجزيرة الفراتية هي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات وسميت قبل الإسلام أيضاً ديار ربيعة وأجزاء منها  سميت ديار مضر وديار بكر ، وذلك لسيطرة تلك القبائل عليها وإنتشارهم بها قبل الإسلام   حتى نسبت  إليها (3).

 

أحببتُ من خلالِ هذا البحث أن أضعَ موضوع ( لُّكْنة عشائر الجزيرة الفراتية ) تحت المجهر .. وأن أضرب أمثلة على بعض مفرداتها وحالاتها وأفسرها تفسيراً يسهل على العامة و يستمتع به الخاصة. وقبل التطرق  للكنةِ عشائرِ الجزيرةِ الفراتية يجبْ أن نعلمَ أن استبدالِ حرفٍ بدلَ آخر يعودُ لسببين .. فإذا كان  ذلك نتيجة ً لعيب  خُلقي كأن يستبدل حرف الراء غين، واللام ياء، والسين ثاء فهذا يسمى (لثغ) ونقول أن فلان به (لَثْغة) ، أما في حال كان استبدال حرف بآخر من دون عارض خلقي ومن أصل كلام الشخص كونه شخصاً أعجمياً مثلاً أو أنه كثير الاختلاط  فعند ذلك نقول أن الشخص (ألكن) ، يقول الجاحظ  (يقال في لسانه لُّكنه إذا دخل بعض حروف العجم في حروف العرب وجذبت لسانه)(4) وفي اللغة إذا شابَ كلامُ الشخص شئ من كلام العجم فإنه يقال يرتضخ لكنة عجمية ، كنحو يَرتَضِخُ لُّكْنةً فارسية ، و يَرتَضِخُ لكنة رومية (5)   ، و العامة من عشائر الجزيرة الفراتية السورية  يرتضخون اللكنة الفارسية ، وقد يعودُ ذلك إلى القُربِ والمجاورةِ من جهة ، وقد يكون بسبب سيطرة الفُرس الأخمينيون قبل الإسلام على هذه المنطقة لعدة قرون من جهة أخرى .

تَقعُ  لُّكنة عشائرَ الجزيرةِ الفراتيةِ في حرفين هما : القاف و الكاف ، أما لُّكْنتهم في القاف فتكون بتحوله في لسانهم  إلى ثلاثة أحرف و هي : الكاف الفارسية  والكاف العربية  و الجيم العربية ، وأما لكنتهم في  القاف فيكون بتحوله في لسانهم إلى الجيم الفارسية فقط ، و في معرض مقالي هذا  سأصطلح كتابة القاف المتحولة إلى كاف فارسية بأضافة فتحة فوق الكاف هكذا ( كَ ) ويقابلها بالأنكليزي لفظاً الحرف (g)   ، أما القاف المتحولة إلى كاف عربية سأكتبها كما هي دون زيادة هكذا ( ك) والمتحولة إلى جيم سأكتبها هكذا ( ج) ، وفيما يخص الكاف المتحولة إلى جيم فارسية في لسانهم فسأكتبها هكذا ( جّ) بأن أضع فوقها شدة كناية عن أنها فارسية منقطة علماً أنه يقابلها بالإنكليزية لفظاً ( CH) .

ما يثير الأهتمام أيضاً بأن تحولهم من القاف إلى الحروف المذكورة ليس له قاعدة معينة يمكن اعتمادها ، بل يتم الإعتماد فقط على السماع منهم ، حيث يمكن سماعهم يَنْطِقونَ القاف كافاً فارسية  ( كَ)في نحو قال  ويقول ويلفظونها  هكذا ( كَالَ و يكَولُ )، مع قلبهم  النبرة ياءً في الغائب ( كَايل) ، وكذلك في قولهم قبر ويقبر و مقبرة  ، و في قام ويقوم، وفي قعد ويقعد وقعود وقاعد وربما جاءت قاعد عند لفظ بعضهم جاعد وليس (كَاعد) وذلك بقلبها جيماً بدل الكاف الفارسية  ، و في قَدِرَ، و يَقْدِر ، دون المصدر واسم الفاعل ، فلا يقولون كَدرة بل قدرة ، ولا يقولون كَادر بل قادر ، و نجد إبدالهم  القاف كافاً فارسية أيضاً في قلب ، ويقلب ، قالِب (بالكسر) ، أما قالب بفتح اللام او سكونها نحو قوالب فأن القاف تبقى صريحة كما هي ولا تستبدل فلا يقولون كَوالب ! . وايضاً نلاحظ قلب القاف كافاً فارسية في قشر ويقشر وتقشر ومقشر ( نحو كَشّر)  ، وفي قصع القملة ، يقصعُها ، قصعاً ، فهو قاصع والقملة مقصوعة ، وفي قرب يقرب وقَرابة فهو قريب  ( كَريب)، وفي قطع و يقطع قطعاً فهو قاطع وذاك مقطوع وكذلك انقطع وينقطع ومنقطع ،وتأتي هنا مثلاً الكنية التي أحملها ( القاطع) وجرى أن تلفظ القاف فيها بالكاف الفارسية ( الكَاطع) وكتبت كافاً في السجلات المدنية فتراني أضعها كافاً . وأيضاً نجد في قضى ويقضي فهو قاضي، ويقلبون في هذه الكلمة والكثير من الكلمات الضاء ظاءً فيقولون عوضاً عن قضى الشتاء ( كَظى الشتاء) بمعنى أنتهى ، وفي قبض ويقبض ومقبوض  بمعنى استلم ، وفي قضب (كَظب) وتأتي بمعنى أمسك، كما في يقضب ( يكَظب) و في قبل يقبل فهو قابل ومقبول ، وكذلك أقبل ويقبل فهو مُقْبِل ( مُكَبِل) وعند البعض تقلب القاف جيماً فتلفظ مجبل، و في نحو قبّن الشئ بالقبان يقبنه أي يوزنه فهو مقبِن (بالكسر) وذاك مقبَّن (بالشد المفتوح) ، وفي قحم ويقحم وقاحم والأسم منه مقحم  ( مكَحم) وعند بعض العشائر تقلب جيماً في الأسم كما في : مجحم . وفي قطف يقطف قطفاً ، وقصد يقصد قصدا فهو قاصد وذلك مقصود (بالكسر) .وايضاً في كلمة العقال ( ما يعقل فيه الكفية فوق الرأس ) ( عكَال) ويقال في القيظ وهو حمرة الصيف: (كَيظ) وفي  البقرة ( بكَرة) و القهوة  (كَهوة) والقرن للثور مثلاً  يسمى ( كَرن) وهكذا .

إلى جانب هذا كله هناك أفعال وأسماء لا تتحول فيها القاف إلى كاف فارسية في لسان عشائر الجزيرة السورية في نحو قلَّ و قليل ويقل ، في حين يحولون قاف قلَّ كاف فارسية عند التصغير فيقول ( كَليَّل) بتشديد الياء  ، وفي قنع يقنع أقناعاً ويقنعه تقنيعاً فهو مقنع، وفي قهره قهراً فهو قاهر وهي قاهرة وذاك مقهور ، وقرقرة البطن ، فهذه كلها من الأفعال التي لا يتم استبدال القاف فيها كاف فارسية ، أما الاسماء التي تبقى فيها القاف دون تبديل فهي  كثيرة على نحو : القوس والقرد والقديم والقرآن والقلم والقانون والقطايف والقمة والقندرة والقفل ...الخ.

أما في جانب استبدال القاف بالكاف العربية فهذا نادراً جداً ، ووجدته في ثلاثة أفعال وأسم ، فالأفعال هي : قبح و قتل وقفخ ( بمعنى صفع) فيقولون في قبَّح بالتشديد مثال : قبّح الله وجهه فتصبح بلسانهم ( كبح الله وجهه) و في قتل : كتل ، وفي قاتل : كاتل ، وفي مقتول : مكتول وقد يلفظها بعضهم (مجتول) .وكذلك في قفخ بمعني صفع فقد جاء في كتاب جمهرة اللغة لصاحبه أبو بكر الآزدي ما نصه : (وَأهل السّمن يسمون الصفع القفخ كَمَا يُسَمِّيه أهل مَكَّة الفشخ )(6) فيقولون ( كفخ) يكفخ فهو كافِخ وذاك مكفوخ والأسم منه كفخة. ونجد خارج هذين الفعلين هذا الاستبدال في اسم : الوقت فيقولون (الوكت) وجمعه أوكات.

أما تحويلهم القاف إلى جيم فذلك نجده في يقسّم : يجسّم وقد يقال يكَسّم ، المقسوم المجسوم وبعضهم يقول المكَسوم بالكاف الفارسية.  ونجدها في قدم : جدم ، واقدام : اجدام ، وفي يقدم يجدم فيقال في مثل قدموا كبيرهم:  (جدَّموا جّبيرهم )، وكذلك نقول قنى واقتنى السيارة يقنيها فتكون جنى السيارة يجنيها فهو جاني ، وفي الأسماء يقولون في قش : جش ، وكذلك القزاز (جزاز) بمعنى (البللور)  و قولهم في  قداحة : جداحة ، وفي القير: جير ، وفي القدر (آنية طبخ) جدر ، كما في القريب عكس البعيد يقولون (جريب) وفي الصديق (صديج)  ، كما يقولون في القرية: جرية ، وفي قاسم: جاسم وفي قليل: جليل ، ويقولون في قلة جلة ومنهم قولهم ( من جلة الخوف) وقولهم ( جليل إحسان ) . وقولهم في أسم الفاعل عاقل: عاجل وفي الأنثى التي لا تلد أي العاقر : عاجر.

أما حرف الكاف فتتحول في ألسنتهم إلى الجيم الفارسية المثلثة كقولهم في كان : جّان دون الفعل المضارع فلا يقولون يجّون بل تبقى كاف عربية : يكون . وفي كلمة كتف : جتف ، وكفه يكتفه تكتيفاً فهو مكتِف وذاك مكتَف ، وفي كثر وكثير نجدها : جّثر وجّثير ، وفي كرّع في الماء تكريعاً ،و يقال جّراع الغنم وليس كراع الغنم ،  وفي أنكلب: أنجّلب فهو منكلب : منجّلب من (الكلب) كقولنا (عضه الجّلب و أنجّلب) ،فالكلب عندهم ( جّلب ) والديك ( ديجّ)  وايضاً في كلمة كايل ويكيل ومكيال ( مجّيال) ، وفي كرش وجمعها كروش ( جّرش و جّروش) ،والكنة بمعنى زوجة الأبن يلفظونها (جّنة) ،  والشكوة ( وهي القربة المصنوعة من الماعز الصغير وما يوضع فيه اللبن ) ويلفظونها (شجّوة) أيضاً (7) ، ففي كل هذه الكلمات يتحول لسانهم من الكاف إلى الجيم الفارسية المثلثة النقط  كما وضحنا والكلمات كثيرة ولا مجال لحصرها كلها . لكننا سنذكر أيضاً جملةً من الأسماء التي لا يجري تحويل الكاف فيها إلى جيم فارسية و من جملتها : الكلمة والكلام ، وكَتَبَ وكاتب وكتاب وكُتبٌ ، والكبة والكباب (ضرب من أطعمة أهل الجزيرة ) والكربة من الكرب ، والكرسي والكراسي ، وأيضاً الكيف والمكيف ، والكُر (الجحش الصغير) ، والكادينه بمعنى (الحضيرة للماشية عند أهل الفرات) ، والكحل والمكحلة والكراث والكوسا (من الخضروات) ، والكردي و الأكراد ، والكنز والكنوز ، وأيضاً المكنسة غير أن لها أسماً يدخل فيه الكاف الفارسية وهو ( مكَشّة) . وأيضاً نجد الكاف لا تتغير في كلمة الكون و الكونة (بمعنى العراك )، وفي لفظة العُكّة : وهو الجلد المدبوغ والمستخدم لحفظ السمن.(8)

ويتضح مما سبق و كما ذكرنا في بداية حديثنا بأن لُّكْنة أهل الجزيرة الفراتية في القاف والكاف ليس لها قاعدة معينة او ضابط معين و معرفتها تأتي فقط في سماعها منهم كيفما تناقلوها كابرا عن كابر وعلى مدى قرونٍ عديدة من الإحتكاك والتغيرات والاختلاط.

المراجع :

1- كتاب صورة الأرض لأبن محمد ابن حوقل الموصلي المتوفي سنة 367 هــ

2-  كتاب البدو ( ماكس فون اوبنهايم)

3- احسن التقاسيم المقدسي ص 137 ، المسالك للاصطخري : ص 71

4- علم اللغة العربية - د. محمود حجازي ، باب الجاحظ وملاحظاته اللغوية الجزء الأول ص 250

5- كتاب تهذيب اللغة لصاحبه محمد بن أحمد الأزهري الهراوي الجزء 7 ص 52

6- جمهرة اللغة - أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الآزدي - الجزء الأول ص 615

7- إصلاح المنطق لابن السكيت -  جزء الأول ص 264

8- فقة اللغة وأسرار العربية لأبي منصور الثعالبي -  جزء الأول ص 179